تقارير ومقابلات

أسفي على زيدية اليمن.

صورة معبرة
صورة معبرة

الكاتب / إلياس بلكا

التقيت منذ نحو عامين في إحدى الندوات مجموعة من أفاضل الزيدية، وكان منهم أحد أحفاد الإمام حميد الدين، وهو آخر أئمة اليمن وعليه كان انقلاب عام 1962  .. ودار بيننا حوار، فكان ممّا سألته عنه: أين صوت الزيدية في عالم اليوم؟ فكان جوابه الأول: ما عندنا مليون دولار.

ما القصة؟ الشيعة تاريخيا عشرات الفرق والمذاهب، فهي الطائفة الأكثر انشقاقا في التاريخ الإسلامي، ثم إنها استقرت في زمننا هذا على ثلاث فرق رئيسية: الإمامية والزيدية والإسماعيلية.. وتوجد طوائف غيرها لكنها جد محدودة، أو في طور الانقراض والذوبان في إحدى الجماعات الثلاثة، خاصة الأولى، إذ للإمامية اليوم مشروع طموح لتوحيد التشيع واستلحاق جميع فرق الشيعة.. بحيث يكون جميع الشيعة في العالم إمامية.

وهو غير مشروع نشر التشيع وسط أهل السنة. فهذان مشروعان مختلفان.
نتكلم الآن فقط في المشروع الأول، فهو في الحقيقة مشروع وأمل قديم جدا، فالمذهب الإمامي نفسه ثمرة تركيب وجمع لآراء فرق شيعية كثيرة، كما أوضح ذلك الباحث الشيعي العراقي كامل الشيبي في كتابه “الصلة بين التصوف والتشيع” حيث قال: “التشيع الحالي إنما هو زبدة الحركات الشيعية كلها، من عمار إلى حجر بن عديّ إلى المختار وكيسان إلى محمد بن الحنفية وأبي هاشم وبيان بن سمعان والغلاة الكوفيين، إلى الغلاة من أنصار عبد الله بن الحارث، إلى الزيديين والإسماعيليين، ثم الإمامية التي صارت اثنا عشرية. وقام بعملية المزج متكلمو الشيعة ومصنفوها.”

واليوم يُعاد إحياء هذا المشروع، وقد نجح نسبيا، خاصة مع فرقة النصيريين أو العلويين بالشام.
والنجاح الآخر تحقق باليمن، إذ تحول جزء مهم من الزيدية هنالك إلى المذهب الإمامي، وأصبحوا يُعرفون بـ”الحوثيين”.

وما كنت أحب لإخواننا الزيود أن يتركوا مذهبهم، فهو مذهب عظيم له تاريخه ورجاله، كما أن شخصية مؤسسه عظيمة في تاريخنا، فهو زيد بن علي زين العابدين بن الحسين.. رضي الله عن الجميع. كان عالما وتقيا وشجاعا، وثار في الكوفة على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، لكن أصحابه –كالعادة- خذلوه وتركوه في المعركة وحيدا.. فتكررت مأساة جدّه الحسين مرة أخرى، لذلك يقال له أحيانا: الحسين الثاني.

وقد أسس الزيود دولا، وبنوا مدنا، وظهرت عندهم مدارس كلامية وأصولية وفقهية.. وساهموا في حضارتنا العربية-الإسلامية.. يكفي أن تتأمل لائحة علماء الزيدية على مرّ التاريخ، وهي غنية بكبار العلماء في مختلف المجالات.. كالهادي ويحيى بن حمزة وابن الوزير والشوكاني..
وفي الزيدية أيضا اعتدال، فهم وسط بين أهل السنة والشيعة، لذا يُلقبون بـ”سنة الشيعة”، أو “شيعة السنة”.. فكان من الآمال المعقودة عليهم أن يكون لهم دور في التقريب بين الفريقين العظيمين..

لكن عوض أن يتمّ تطوير المذهب وإعمال الاجتهاد فيه وإخراج تراثه وتأصيل مواقفه.. بحيث يكون له حضور معتبر في الساحة الإسلامية وأثر محمود في نهضتنا المنشودة.. فإن جزءا كبيرا منه ترك الجَمَل بما حمل، وترك المذهب كله إلى مذهب آخر اعتنقه كما هو بلا زيادة ولا نقصان.. فظهرت حركة الحوثيين أو طائفة الحوثيين، لا أدري كيف نصفها.. وهي الحركة التي حظيت بدعم إيراني شامل..

وأحسب –والله أعلم- أن مخطط إيران في اليمن هو تحويل الزيود إلى المذهب الإمامي، ثم دعمهم وتسليحهم ليكون لهم دور مباشر، وربما أكبر من حجمهم، في البلد. أي يريد الإيرانيون بالضبط تكرار تجربة حزب الله بلبنان. وهذا المشروع نجح  باليمن إلى حد كبير، وإن كان من المستحيل أن ينجح نجاحَ حزب الله بلبنان، لأنه في اليمن جميع الأطراف مسلحة، والقبلـيّة مهمة بالبلد، ولا توجد هناك إسرائيل لاتخاذها ذريعة بالحق أو بالباطل.. ثم ليس جميع الزيدية تحولوا إلى إمامية، فالطائفة الآن منقسمة على نفسها بشكل عميق.

لست ألوم إيران على شيء، فهذا بلد كبير له سياساته  ومشاريعه.. ومن حقه أن يعمل وفق ما تمليه  عليه ما يعتبره مصالحه، سواء كانت مذهبية ثقافية، أم سياسية أم استراتيجية أم اقتصادية.. وكان رأيي ولا يزال أنه علينا أن نتعامل مع إيران  باحترام ونعترف بدورها ومكانتها.
لكن كنت أتمنى على  زيدية اليمن أن يقولوا للإيرانيين: شكرا على دعمكم، لكننا نريد أن تكون علاقاتنا ندّية أكثر، وأن نتعاون في إطار احترام خصوصيات كل طرف، وأنه توجد مساحات أخرى ووسطى  بين الاستتباع الكامل والعداوة المتبادلة.
كنت أتمنى على زيدية اليمن أن يطوروا من المذهب ويُخرجوا كنوزه وينشروا تراثه، ويصححوا ما يرونه جديرا بالتصحيح، ويكون لهم صوت ورأي مستقل عن الجميع..
بكلمة كنا نتمنى أن يُجدَّد المذهب  دون أن يفقد  شخصيته وروحه الأصيلة.. لكن الذي حدث في بعض دوائر الزيدية أنه لا هم جددوا ولا هم حافظوا على ما عندهم.. بل ببساطة  تركوا كل شيء وقلـّدوا بعض ما هو موجود.. وهذا سبيل سهل لأنك تقلد ولا تبدع شيئا.
لاشك أن من أهم أسباب خفوت صوت الزيدية الأصيلة ضعفها المادي، فالزيود فقراء في الغالب، وليس لهم أموال من النفط أو غير النفط لكي يغروا بها الناس.. كما يفعل الآخرون.. إذ كثير من المتحولين مذهبيا  تحركهم مصالح مادية ومالية.. لكنهم يحاولون إيهام أنفسهم وغيرَهم بأنهم مقتنعون، لذلك قد تجدهم يدافعون بشراسة عن مواقفهم الجديدة.. لكنهم في العمق طلاب مال مهما علا صوتهم بغير ذلك..

وأنا على يقين أنه لو كان للزيود بترول لما حدثت هذه التحولات في صفوفهم.. كما أنا على يقين بأن بعض الشباب السني الذي يتحول الآن إلى المذهب الإمامي.. كان سيختار المذهب الزيدي.. أعني أيضا لو كان للزيدية أموال يوزعونها.. فالمسألة عند الكثيرين مادية وليست مبدئية..   لذلك فحفيد الإمام مصيب حين قال لا نملك مليون دولار. وهو الحدّ الأدنى لإنشاء قناة فضائية مثلا.

لكنه سبب غير كاف في تفسير هذا الأفول البطئ لمذهب كبير  وعظيم في حجم الزيدية.
وقد يُقال: أنت من المغرب الأقصى، فلماذا تكتب عن الزيدية. والجواب أننا أمة واحدة، ومصيرنا واحد، وجسد واحد.. من جهة أخرى العلم مواهب من الله سبحانه، يمكن أن تكون مغربيا وتنتج عملا عظيما يتعلق بقضية مشرقية بالأساس.. ويمكن أن تكون سوريّا وتنتج عملا كبيرا يتعلق بالمغرب الكبير مثلا..  فالمعارف مواهب، وفضل الله يؤتيه من يشاء أينما يشاء.

لذلك فأعظم كتاب  جامع عن الزيدية في العصر الحديث، أو من أعظم هذه الكتب، لم يكتبه يمني، بل كتبه أستاذ مصري اسمه: أحمد محمود صبحي.. وهذا معناه أنه يمكن لبعض علماء ومفكري أهل السنة من الشباب، خاصة إذا كانوا متعاطفين مع الزيدية،  أن يساعدوا المذهب على التجدد والاستمرار.. يمكن أن يقترحوا عليه سبيلا ما.. خارطة طريق فكرية وإصلاحية.. حتى يكون للمذهب وجوده وصوته وإضافته المميّزة إلى حضارتنا.. والله سبحانه أعلم وأحكم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى