مقالات

ثورة الفقيه

25714حميد بن خيبش

أثناء الهزات السياسية والثورات الاجتماعية كان المسلمون، ولا زالوا، يتوقعون من طائفة العلماء والفقهاء ردودًا تتساوق بحدة ووضوح مع خطابهم اليومي وبلاغة وعظهم وصيانتهم المعلنة لحدود الشريعة. غير أنه، وعلى مر التاريخ، أظهرت الأحداث انقسامًا في صفوفهم بين نصير للضعفاء ومؤيد لجور السلطان.

أثناء الهزات السياسية والثورات الاجتماعية كان المسلمون، ولا زالوا، يتوقعون من طائفة العلماء والفقهاء ردودًا تتساوق بحدة ووضوح مع خطابهم اليومي وبلاغة وعظهم وصيانتهم المعلنة لحدود الشريعة. غير أنه، وعلى مر التاريخ، أظهرت الأحداث انقسامًا في صفوفهم بين نصير للضعفاء ومؤيد لجور السلطان. كان الخطر المحدق، أو طبيعة المرحلة الجديدة، أو انحراف الحاكم في سياسته العامة يحمل بعضهم على الجهر بالحق دون مواربة والتدخل الحاد في شؤون السياسة، بينما كان بعضهم يؤثر السلامة ويأخذ بالرخصة. أما الطائفة المرذولة فهم الذين عقد لهم ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (صيد الخاطر) فصلاً تحت عنوان (المتاجرة بالدين)، ومما قال فيه: “وإن أقواماً لم يقنعوا وطلبوا لذيذ العيش فأزروا بدينهم وذلوا لغيرهم. وخصوصاً أرباب العلم فإنهم ترددوا إلى الأمراء فاستعبدوهم، ورأوا المنكرات فلم يقدروا على إنكارها، وربما مدحوا الظالم اتقاء لشره،  فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا منالدنيا“.

باستدعاء ما في صحائف التاريخ من نماذج مشرقة انحازت في الشدائد والمنعطفات القاسية لما تبين لها أنه الحق، تنقدح في النفوس شعلة الاقتداء، وتستعيد البوصلة الهادية للفكر والسلوك عافيتها وفاعليتها. وقد كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: “الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه لأنها آداب القوم”. وشاهده من الكتاب قوله تعالى: أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]. والقاضي عياض بن موسى السبتي (544-476هـ) أحد أولئك الأفذاذ الذين أصروا على إخراج (الفقيه) من محرابه ودرسه ليؤدي دوره في مسرح الأحداث اليومية، ويثور ضد حركة استهدفت الوحدة العقدية والمذهبية والسياسية للبلد.
قلما يُذكر اسم القاضي عياض دون أن يقرنه السامع بكتابين جليلين هما (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم)، وهو كتاب في الشمائل النبوية خط عياض في ثناياه صدق المحبة للرسول الأكرم، كما سعى من خلاله إلى توهين مزاعم المهدي بن تومرت التي روج لها لتبريرالانقلاب على المرابطين، وخصوصًا القول بالعصمة واتهامهم بالتجسيم. أما الثاني فهو كتاب (ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك) وهو ثمرة جهد فكري ومقدرة عالية على المناظرة والترجيح وجرد الحجج النقلية والعقلية للدفاع عن فقه مالك رحمه الله وترسيخ جذور مذهبه في المغرب الإسلامي. غير أن ما يسكت عنه عديد من المهتمين بالترجمة له هو ثورته على الموحدين، ورفضه تسليم سبتة لهم وفاء منه للمرابطين واعترافاً بفضلهم في لم شعث المغاربة وإخراجهم من وهدة التمزق المذهبي. وهي الثورة التي انتهت بنفيه وموته مغرباً بمراكش.

يذهب الدكتور حسين مؤنس في كتابه (معالم تاريخ المغرب والأندلس، 1992) إلى أن ظهور الموحدين كان بلاء على المسلمين، فهو من جهة صرف المرابطين عن إتمام مشروع الجهاد في الأندلس، وتولد عنه من جهة أخرى صدام بين قوتين إحداهما في أوج عطائها الحضاري والثانية في عنفوان شبابها. ولو تأخر ظهور دولة الموحدين نصف قرن من الزمان لتعاقبتا على الجهاد ولكان تعاقبهما نعمة على الإسلام وأهله، ولكن هكذا شاءت المقادير وخسر المسلمون في هذا التعاصر شيئاً كثيراً. وقد كان للشخصية الغريبة لمحمد بن تومرت وطموحه السياسي فضلاً عن ملكاته القيادية والتنظيمية دور كبير في تأليب القبائل ضد المرابطين، لذا حين استلم الأمر من بعده عبد المومن بن علي كان السبيل ممهدًا لقيام دولة قبائلية على أنقاض كيان سياسي فريد.

بعد سنة ونصف من توليه القضاء بغرناطة عاد القاضي عياض إلى سبتة كي تنظم نفسها تحت إمرته للتصدي لجيوش عبد المومن الموحدي. ولم يكن هذا بالأمر الشاذ في دولة حظي فيها الفقهاء والقضاة بمكانة سامية وجرأة محمودة في تصدر المشهد السياسي. ومما قاله عياض في إحدى خطبه حاثًا أهل سبتة على الوفاء بالبيعة للمرابطين: “أ يها الناس، انظروا لأنفسكم، واستيقظوا من غفلتكم، وتأملوا ما يراد بكم، واستعدوا لما أعد لكم، وتحفظوا قبل أن يحاط بكم، فإنكم تستقبلون خطباً جسيمًا، وتنتظرون عن قريب أمرًا عظيماً، فقد صار أعداؤكم عليكم إلباً، وتحالفوا عليكم شرقاً وغرباً، واحتشروا إليكم براً وبحراً، وتعاقدوا عليكم سراً وجهراً، ومدوا لكم من شرهم أمراً مرًا، وأنتم عما يراد بكم غافلون، وعما يحل بكم إن لم يدفع الله عنكم ذاهلون، كأنكم من مكرهم في أمان، ولستم بأضدادهم في الدين والإيمان، فقد جدت بكم الحرب فجدوا، وشمرت عن ساقيها فشدوا، وأعدت لكم مكايدها فاستعدوا..”. لكن الصمود في وجه الموحدين لم يدم طويلاً خاصة بعد بسط نفوذهم على مدينة فاس،  فتوجه عياض للقاء عبد المومن سنة 540هـ، فأكرمه الخليفة الموحدي وأقره في منصبه قاضياً على سبتة، وهو مالم يدم طويلاً إذ ثارت ربوع المغرب مجددًا بزعامة ابن هود الماسي على السلطة الموحدية، فأعلنت سبتة عصيانها، وأقدم أهلها على إحراق والي الموحدين وأعوانه بعد أن شاع خبر عزمه التخلص من القاضي عياض.

سعى بعض المؤرخين إلى تحميل عياض وزر العنف الذي اتسم به تمرد السبتيين، وهو مالا يُستساغ قبوله بالنظر لمكانة الرجل وعلمه وفضله. بل مرد الأمر إلى كراهية مستحكمة في نفوس أهل سبتة تجاه الحكم الموحدي، فلما سنحت الفرصة انقضوا على واليها وأعوانه وهيأوا لعياض قيادة ثورة ثانية لم تصمد أمام حزم عبد المؤمن وصرامته. وفي هذا الصدد يؤكد المؤرخ أحمد الناصري (الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى.ج2.ص105) على أن موقف عياض كله صواب وموافق للحكم الشرعي، فما صدر عنه في جانب الموحدين دليل على أنه كان يرى أن لا حق لهم في الأمر والإمامة وأنهم متغلبون. فلما كانت شوكتهم لا تزال ضعيفة توجب عليه الامتناع عن مبايعتهم لأن بيعة المرابطين في عنقه، ولا ينبغي أن يعدل عنها إلى غيرها بلا موجب، وحين قويت شوكتهم وجبت طاعتهم. وثورته الأخرى كانت رجوعًا بأهل سبتة إلى طاعة المرابطين الذين لهم الحق في الإمامة بطريق الأصالة. أما قتل والي الموحدين ومن معه فالظن أن القاضي عياض لا يقره ولايرضاه، لكن العامة تتسرع إلى مجاوزة الحدود، لاسيما أيام الفتن، وذلك معروف من حالهم.

بعد أن اشتد الحصار على أهل سبتة أذعنوا وقدم أشياخهم بالبيعة إلى عبد المؤمن فعفا عنهم، لكنه ليأمن غدرهم أمر بإخراج عياض ونفيه إلى مراكش. وقد اختلف المؤرخون بشأن المعاملة التي لقيها في طريقه إلى مراكش، ومهما يكن الأمر فإن محنة التغريب كانت أقسى على نفسه مما عداها لما عُرف عنه من تعلقه الشديد بسبتة والذي حال حتى دون رحلته إلى المشرق لطلب العلم أو للحج!

انحاز القاضي عياض إلى الشرعية على المستوى السياسي فلم يخلع بيعة المرابطين عن عنقه، بل نراه إبان الثورة الثانية يركب البحر إلى قرطبة ليجدد البيعة لواليها المرابطي ابن غانية، ويلتمس منه انتداب وال على سبتة، في الوقتالذي كان فيه فقهاء الأندلس يركبون موجة الثورة ليُنصبوا أنفسهم حكاماً ويدعوا الناس لمبايعتهم. كما انحاز للعقيدة الصحيحة والمذهب المالكي السني حين روج ابن تومرت وأتباعه لخطاب ديني يضج بالمخالفات الشرعية في العقيدةوالأحكام، وبذلك أسهم عياض رحمه الله في صيانة نموذج الاقتداء لما ينبغي أن يكون عليه الفقيه حين لا يستوعب مسرح الأحداث العامة بديلاً آخر غير الهزة الثورية!


المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى