مقالات

الـ” بوعزيزي ” ونيران الثورة المضادة

رشيد العطران

رشيد العطران

لم يكن لشرارة البو ( عزيزي ) أن تستثني بلدا دون آخر من عصفها المأكول، ولا أن تجعله بعيدا عن حلبة الصراع القائم بين العدالة والاستبداد، فهناك ثمة روابط كثيرة هيئت الأجواء الثورية في الوطن العربي، وجعلته شعلة محرقة في وجوه عتاولة الحكم والإستخلاف، فالظلم، وسياسة الكبت والإسكات، والعيش على الأنقاض، وعدم حفظ الحقوق وانتهاكها، وامتهان وسلب الكرامة من وجوه الناس وحياتهم كانت أسبابا حقيقية لانتشار الحالة الثورية في عالمنا العربي، وبالأخص تلك الدول الديمقراطية ذات الوصف الجمهوري البئيس .!

وبالفعل فقد خرج الناس وحصل تغيير .! وسقطت عروش الطواغيت، ورحل قادة النظام، وهلك من هلك في مواطن الجرذان، وهام في السماء كالريشة من لا يجد موطن القرار، وأحرقت الشرارة بعض الوجوه ” جزاء وفاقا ” بما عملت ” ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ” الظالمين ” ولا يظلم ربك أحدا ” ظالما ومظلوما ” وما كان ربك نسيا “.!

انتشت الجموع الثورية بفرحة النصر في كل مكان، وتصدر الثوار كرسي الحكم وانشغلوا بمراسمه دون النظر والتدقيق في العواقب وردة الفعل المضادة للثورة، واتكلوا على مجاميعهم المنتشرة في الساحات، وتناسوا أن الإنتصار الحقيقي ليس بسقوط الظلمة الطغام فحسب، بل بسقوط كل أدواتهم وآلياتهم، وهذا ما لم تقم به عناصر الربيع العربي في كل بلد، فقد أسقطت الظالم على هامته الوضيعة، لكنها تركت حملة كرسيه يقدسون بحمده بعد رحيله، ويعيدون مجده المتهالك بشبح آخر كما لو كان هوْ، وجعلت البوابة مفتوحة أماك كل متربص بلا حراسة وتحصين موثق، وعند ذلك لا تتعجبوا إن قلت لكم : أن هروب زين العابدين من تونس لم يكن انتهاء للاستبداد من حياة الشعب التونسي، وأن سجن مبارك لم يكن حجبا للظلم والاضطهاد عن حياة الشعب المصري، وأن رحيل صالح عن كرسي الحكم لم يكن رحيلا للمعاناة عن حياة الشعب اليمني، كلا .. فالأمر أضحى عكسيا تماما، وكأن القاعدة التي تقول : ” الضربة التي لا تقتلك تقويك ” كانت مصدر قوة لهذه القوى المنكسرة، وهذا بالضبط هو الذي حصل مع هؤلاء الطغمة الفاسدة، فقد عادت الكرّة اليوم لهم، وعادوا للساحة السياسية بقوة مشبوبهة بنيران الكراهية والحقد والحرص على الإنتقام .

تراجعت الثورة وتثاءبت و سكنت بعد ذلك مليا، ولم تعد هي وثوارها شيئا مذكورا أمام هذا الكم الهائل من المكر الكبَّار، وتقاعست أحزاب ( سلميتنا أقوى من الرصاص ) عن مواصلة المشوار، ليتضح أن الثورة – وجهة نظر – جاءت تلبي حظوظا نفسية وحزبية ضيقة لا أهدافا وطنية أممية واسعة الأرجاء.! وحينها لا عجب أن نجد زخما ثوريا مضادا وملوثا من قبل مهجر ومسجون ومحرق، أو أن نجد أياديَ تعبث بوطن خال من الحماية والرعاية، لتمتهن مهنة الاستحواذ على كل شيئ، لتمنع عن الناس كل شيئ ! المهم لديها أن يرتاح ضمير الظالم المستبد، وأن تبقى معاناة الناس مصدر سعادته وسعادة الحلفاء، وأن يكتب التاريخ عنهم ولو أنهم ( كانوا قوما مجرمين(.

لست هنا أندب الأحزان على ثورة الثوار فهذا المصير كان معلوما لدي من خلال التاريخ الثوري للثورات، ولكنني حقا أنشد في هذه السطور أرواحا ارتقت بنفسها ليحيا وطن البائسين المحرومين، فقدمت صدورا عارية لقناص إن تحمل عليه يلهث، وإن تتركه – أيضا – يلهث، لقد أبت تلك الهامات الثورية حياة الذل والضيم، فقامت تفادي أمتها الكبيرة بذلك الجرم الصغير .!

هنا تساقطت أقنعة دجاجلة السياسة والثقافة، وظهرت عورات دعاة الزيف والخداع الذين ركبوا موجة الثورة لتحقيق أهداف مشبوهة، وتنفيذ أجندات خارجة لا صلة لها بواقع الناس وحياتهم، لقد انكشف من باعوا الصاعدين إلى العلا، وأبنائهم اليتامى، ونسائهم الثكالى ببريق الدينار والدرهم، من قاموا بطقوس الإرتهان للغرب المهين، واستسمنوا ورمه الخبيث، وهو نحيل كليل – وربي – منحط بلا قيم أو مبادئ، حيث توارت عن الأنظار وجوههم، وغابت عن الأسماع أقوالهم، ولزموا الحياد بين معركة حق وباطل كما كانوا يقولون، ليكونوا بشهادتهم على أنفسهم من الخائنين .!

إنني – رغم كل ذلك – انظر من وراء هذه الأحداث الأليمة فتحا قريبا، وأقرأ من خلال هذا السجال بين القوتين – قوة الخير وقوة الشر – تربية إيمانية تطبيقية تؤهل جيلا للقيادة والنصر، ليس فيمن تمت الإشارة إليهم أحدا، لكنني – أيضا – لا أقرأ في ذلك انعكاسا لمعنى الانبطاح أمام الخصوم وتسمية ذلك حكمة، أو الاستسلام لهم وتوصيف ذلك تعقلا، أو عدم المواجهة والصد لمكرهم وجعل ذلك دهاء وخبرة وحنكة، بل إن هذا الضرب من التخذيل والتبرير للأخطاء الماضية والآنية غباء سياسي، وخذلان شرعي، وجبن وخور فطري .!

إن المناورة الحقيقية تبقيك على المبادئ والقيم التي تدعو إليها، ولو كنت في أشد الظروف، وأحلك الأزمات، فالحياة الحقيقة حياة بمبدأ ولمبدأ، والموت الحقيقي موت على مبدأ، ولا حياة ولا موت بدون ذلك المبدأ .!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى