تقارير ومقابلات

مع مفهوم الأدب الإسلامي

عدنان علي رضا النحوي

1 تـمهيـد:

إن المسلمين يمرّون اليوم في ظروف تجاوزت كل حدود الهوان والمذلة، مما يفرض أنّ تستنفر الأمة قواها كلها لحماية ديارها وأعراضها ولحماية دينها قبل كل شيء. إننـا نريد من الأدب الإسلامي أن يخوض معركة الإسلام بكل قواه، ليكون أدباً يشدُّ الأبصار ويقرع القلوب ويهزُّ النفوس. فقد كان سلاحاً عظيماً في دعوة النبوّة الخاتمة وفي معركتها وملاحمها، سلاحاً متميّزاً بخصائصه وروحه وألفاظه وأهدافه، ولم يكن تابعاً لليونان ولا مقلداً للرومان، وإنما كان شيئاً جديداً يقوم على أسس راسخة، أدباً عزَّ بأمته وعَّزت به أمّته، كان روحاً جديدة في حياة البشرية.

إننا نريد التعريف الذي يربط الأدب الإسلامي بمصدره، ومنطلقه، وولادته، ولغته، ومصادر جماله.

لذلك لا بدّ من إقرار الأسس الثابتة والتصور الرئيس النابع من الإيمان والتوحيد ومن منهاج الله، الأسس والتصور الذي لا يجوز الاختلاف فيه، والذي تنبع منه سائر القضايا وترتبط به.

لقد نال الأدب تعريفات مختلفة وتصورات متباينة، لدى مختلف الشعوب، ينطلق كلٌّ منها من تصوّرات فكريّة أو فلسفيّة أو عقائدية. وكلّ تعريف من هذه التعريفات كان يعطي ظلاً لجانب من جوانب الأدب، حتى لا تكاد تجد تعريفاً واحداً جامعاً وافياً.

لا مجال لنا هنا لتعداد ذلك، ولكننا لو عدنا لابن خلدون في مقدّمته لوجدنا أنّه اعتبر الأدب أحد علوم العربيّـة التي عددها كما يلي: علوم النحو، علم البيان، علم اللغة، علم الأدب. ثم تحدّث عن علم الأدب حديثـاً نقتطف منه قوله: “…وإنما المقصود منـه عند أهل اللسان ثمرته التي هي الإجادة في فنّي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم…. ” (1). ولكن ابن خلدون قدّم في بحثه هذا بعض خصائص الأدب العربي أكثر مما قدّم تعريفاً.

ولقد قدّم د. محمد مندور عدة تعريفات للأدب عند نقّاد الغرب ومفكّريه في كتابه ” الأدب ومذاهبه “، مثل: ” الأدب صياغة فَنِّيَّةٌ لتجربة بشرية “، أو ” الأدب نقد للحياة ” (2). ونرى هنا كذلك أن هذه التعريفات تعطي ظلاًّ من ظلال الأدب أو جانباً من جوانبه أو خاصة من خصائصه، دون أن تقدّم التعريف الشامل الذي يُغني.

إن مفهوم الأدب في الإسلام وفي اللغة العربيّة ينبع من تصورات أعظم وأشمل، ومن قواعد أثبت في حياة الإنسان وأشد رسوخاً مما عرفته الآداب الأخرى. فلفظة الأدب في اللغة العربيّة مرتبطة من حيـث الأساس بالخلق الكريم، ليرتبط به كل ما تقدّمه هذه اللفظة من عطاء بعد ذلك. وجاءت الأحاديث الشريفة لتعمّق هذا المعنى وتربطه بالفطرة السليمة، والدين الحقّ، والكتاب والسنّة، وصفاء الإيمان وصدق التوحيد، وسلامة التصوّر وأمانته، مما لا نجده في أيّ لفظة دالّة على هذا العلم في أيّ لغة أخرى. فلا بد أن يبرز تعريف الأدب الإسلامي هذا التميّز العظيم، لمفهوم الأدب الإسلامي ومنطلقه.

ولم يكن عند العرب أول الأمر، ولا عند انطلاقة الدعوة الإسلامية، عُرْفٌ يقضي بوضع التعريف أو المصطلحات. فلا نجد في تلك المراحل ظاهرة تعريف الأدب أو ربطه بالإسلام أو غيره. فعند العرب كان الأَدبُ أَدبَهم ينتمي إليهم ويخرج منهم وعنهم وعن لغتهم العربيّة، دون أن يأخذ مصطلحاً علمياً خاصاً به. وفي الإسلام أصبح الفكر، والأدب كله شعره ونثره، والخطبة والموعظة، والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وغير ذلك، كلّ ذلك كان إسلامي المنبت والمنطَلق والعطاء والصياغة والهدف. فلم يكن هناك حاجة لأن يُسمّى الأدب بالأدب الإِسلامي، لأنه لم يعد في الإسلام غير أدب الإسلام، ولم يعد في الأمة شيء لا ينبع من الإسلام أو يرتبط به، دون أن يبالي أحد بالمصطلح، شأنـه في ذلك شأن السياسة والاقتصاد وسائر ميادين الحياة.

فلا عجب أن لا نجد مصطلح الأدب الإسلامي آنذاك، أو مصطلح الأدب الملتزم بالإسلام، وأن لا نجد تعريفاً له، فلم يكن العرف مبالياً كثيراً بالمصطلح أو التعريف، وإنما كان يقدّم الخصائص الثابتة والسمات البـيّنة من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن الإسلام يتبنّى غير أدبه، وخاصة في مدرسة النبوّة الخاتمة وسنتها، وعهد الخلفاء الراشدين وسنتهم مما أُمِرنا أَن نعضّ عليها بالنواجذ.

فلا مجال إذن لاعتراض بعض الحداثيين اليوم على مصطلح الأدب الإسلامي وإنكارهم له وادعائهم بأنـه لم يكن لدى العرب هذا المصطلح قديماً، ولذلك لم يكن هناك أدب إسلامي. نعم! لم يكن هذا المصطلح ولا غيره، ولكن كانت هناك خصائص مميّزة وسمات دالَّة، كلُّها تنطق وتقول: هذا هو الأدب الملتزم بالإِسلام. هكذا كان العرف المتبع في الأدب وغيره.

ونحن اليوم في عصر يتميّز بفنِّ المصطلحات التي أصبحت عِلْماً، ليتميّز شيءٌ من شيء، بعـد أن اختلطت الأشياء، وبهتت الخصائص، وضعفت السمات، وبرزت مذاهب أدبيّة عديدة. ولذلك برزت ظاهرة المصطلح والتعريف كلما احتاج إليها الناس، وفي حاضرنا اليوم برز مصطلح الأدب الإسلامي أو الأدب الملتزم بالإسلام، وبرز المنادون به. وكان لا بدَّ من ذلك ليتمايز أدب من أدب.

ولذلك أخذ بعض الأُدباء المسلمين يطرحون المصطلح ويطرحون تعريفه. وكان من أوسع المصطلحات انتشاراً مصطلح ” الأدب الإسلامي “، وكان من أكثرها دقّة مصطلح: ” الأدب الملتزم بالإِسلام ” وطُرِحتْ تعريفات مختلفة لذلك نذكر أهم ما توافر لدينا من خلال المؤتمرات والندوات والكتابات:

عرّف الأستاذ سيد قطب – يرحمه الله – الأدب بأنه: ” التعبير عن تجربة شعوريّة في صورة موحية ” (3). وعرّف الأستاذ محمد قطب الأدب الإسلامي بأنه: ” التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصوّر الإسلام للكون والحياة والإنسان ” (4). وعرّف الأستاذ محمد المجذوب – يرحمه الله – الأدب بأنه: ” الفنّ المصوّر للشخصية الإنسانيّة من خلال الكلمة المؤثرة ” (5).

أما الدكتور عبد الرحمن رأفت باشا – يرحمه الله – فقد عرّف الأدب الإسلامي بأنه: ” التعبير الفني الهادف عن واقع الحياة والكون والإنسان تعبيراً ينبع من التصور الإسلامي للخالق – عز وجل – ومخلوقاته، ولا يجافي القيم الإسلامية “(6).

ولقد بيّنتُ في كتاب ” الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ” وكتاب ” النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء ” وكتاب ” أدب الوصايا والمواعظ ” صعوبة وضع تعريف شامل لأي موضوع في العلوم الإنسانية بخلاف العلوم التطبيقية.

ولقد جمع الأستاذ الدكتور جابـر قميحة تعاريف الأدب الإسلامي التي تمكّن من حصرها بجهد كريم في مقالته: ” بين إشكالية المصطلح ومعياريّة التطبيق ” (7). وعلّق عليها وقارن بينها. وأشار كذلك في جملة ما أشار إليه صعوبة وضع تعريف جامع شامل في العلوم الإنسانيّة.

هذه التعريفات التي ظهرت حديثاً استجابة لواقع جديد، قدّمت كلها خيراً، ودفعت مسيرة الأدب الإسلامي، وساهمت في الدعوة إلى مؤتمرات وندوات انبثقت عنها رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وتبنَّت الرابطة في لقائها التأسيسي في لكهنو في الهند بضيافة ندوة العلماء في (25ـ27) ربيع الثاني لعام 1406هـ الموافق 9يناير 1986م، التعريف التالي: الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الهادف عن الحياة والكون والإنسان وفق الكتاب والسنّة “. حسب النظام الأساسي للرابطة الصادر يوم تأسيسها.

ولقد طرأ تعديل بعد ذلك على هذا التعريف في نشرة الرابطة الصادرة سنة (1409هـ) حيث أصبح: هو التعبير الفنّي الهادف عن الحياة والكون والإنسان في حدود التصوّر الإسلامي لها”. مع أنّ لفظة ” التصوّر ” أطلقت العنان للتصورات المختلفة، وخاصة في عصرنا الحاضر، حيث ظهرت تصورات متضاربة في الميدان الإسلامي، أدباً وفكراً وسياسةً واقتصاداً.

ومن خلال هذه التعاريف كلِّها نخلص إلى أنّ كلّ تعريف ركّز على ناحية محددة دون أن يبيّن ماهيّة الأدب بعامة والأدب الملتزم بالإسلام بخاصة. ولم يكن هذا ناتجاً إلا عن طبيعة التعريف لموضوعات تتعلق ” بالعلوم الإنسانيّة “، حيث لا يمكن للتعريف أن يحدّد الموضوع تحديداً كاملاً كما يحدّده في العلوم التطبيقية. فالتعريف في العلوم التطبيقية يكون عادة مغنياً كافياً. فتعريف نظريّة فيثاغورس حدّد النظريّة بصورة تامة، وكذلك تعريف قانون بويل وغيره. ذلك لأن العلوم التطبيقية تقوم على قانون أو نظريّة أو فرضيّة تتمثّل بمعادلة رياضيّة أو فيزيائية أو كيميائية. والعلوم الإنسانية تعتمد على خصائص ووسائل وأساليب وأهداف، لا يتحدّد العلم الإنسانيّ إلا بها. فالتعريف بجمل محدودة وأسطر محدودة لا يستطيع أن يجمع ذلك كله، ولكن يمكنه أن يشير إليها ليوفي أكثر في بيان التصور.

من هنا أعتقد أنه من المناسب أن تُبيَّنَ الأُسس التي يقوم عليها تعريف الأدب الإسلامي وما يشير إلى منطلقه وولادته المتميّزة، وخصائصه المتميّزة، لتكوّن كلها الميزان الذي يحدّد ماهية الأدب الإسلامي وجوهره ورسالته وأهدافه، الميزان الذي يحسم قضايا يَخَتلف عليها بعض المسلمين. فدون أن يكون للإنسان ميزان يزن به الأمور والقضايا، فسيظل يضرب في متاهة بعد متاهة، أو يثير خلافاً بعد خلاف. يضاف إلى ذلك أن التعريف يجب أن يفي بمتطلبات الواقع الذي نردُّه إلى منهاج الله، كما أشرنا في أول الكلمة. ونورد أدناه أهم الأسس التي يقوم عليها التعريف:

2 الأسس التي يقوم عليها تعريف الأدب الإسلامي:

أ ـ قانون الفطرة ونظرية ولادة النص الأدبي (8):

إنه القانون الذي تصوغه لنا الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تقرّر بأن كل إنسان يولد على الفطرة، والتي تشير إلى بعض خصائصها، وإلى بعض القوى والميول والغرائز التي أودعها الله فيها، عرّفنا الله – سبحانه وتعالى – ببعضها، وجهلنا بعضها. من هذه الآيات والأحاديث المترابطة في منهاج الله يخرج هذا القانون، ليقوم على حقائق ربانيّة ثابتة في الكتاب والسنة. ومن هذه الحقائق كلها نستطيع أن نخرج بقواعد كثيرة في ميدان التربية والفكر والأدب والسياسة والاقتصاد وغيرها، أو نشتق منه نظريات نحتاجها في ميدان الممارسة والتطبيق.

ولقد سبق أن فصلنا هذا القانون بدراسات موسعة في كتب ” الأدب الإسلامي والتربية والنهج الإيماني للتفكير” وغيرها. ولكننا هنا نقدّم موجزاً سريعاً ليكون أساساً في تعريف الأدب الإسلامي.

إنَّ أهم ما أودع الله في فطرة الإنسان: الإيمان والتوحيد ليكون فيها النبع الصافي، تفتحـه النيّة الصادقـة الخالصـة لله، لينطـلق الريّ المتوازن العـادل، يروي جميع القوى والميول والغرائز في فطرة الإنسان ريّاً متوازناً عادلاً، حتى تؤدّي كل قوة المهمـّة التي خُلِقَتْ لها. ومن ناحية أخرى فإن الإيمان والتوحيد في فطرة الإنسان يقوم بتصفية الزاد الذي يدخل الفطرة من الواقع وينقيه حتى يخلص من الخبث والسوء. فإذا اضطرب الريُّ بفساد النيّة أو بالآثام والمعاصي، فلا يتم الريّ المتوازن العادل، أو يُغلق الريّ حين يُختَم على قلب الإنسان. وعندئذ تنحرف بعض القوى عن مهمّتها الحقيقية، أو تتيه وتضطرب. ومن القـوى الأخـرى الهامـة في فطـرة الإنسـان قوّتان هما: “العاطفة ” و ” التفكير “. ثم تأتي القوة المتميّزة التي يمكن أن نسميها ” بالموهبة ” في هذا العلم أو ذاك، يضعها الله في فطرة من يشاء من عباده. ومن خلال مسيرة الإنسان يكتسب من الواقع زاداً من العلـم أو الخبـرة، تستقرّ في الفطرة شحنات على ” العاطفة ” و” التفكير “، ومن أهم هذا الزاد صدق العلم بمنهاج الله الذي فرض الله طلبه على كل مسلم. فكأن هاتين القوّتين قطبان تستقرّ عليهما الشحناتُ وتنمو عليهما، حتى تبلغ الشحنات على هذين القطبين درجة تُصبحُ فيها جاهزة للتفاعـل، فتأتي الموهبة، أو القوة المتميّزة، فتشعل التفاعل في لحظة محددة بقدر حقٍّ من الله، فينطلق عطاء الإنسان ومضة غنيّة أو شعلة مضيئة، على قدر سلامة الفطرة ونقائها، وسلامة القوى وطهارة الزاد. ويكون العـطاء بذلك ثمـرة التفاعل بين ” العاطفة ” و”التفكير” و”الزاد من الواقع” و”الموهبة” في فطرة الإنسان. ويكون العطاء المتولّد عطاءً إيمانياً حين تكون هذه القوى قد رواها الإيمان والتوحيـد، ريّاً متوازناً عادلاً تطلقه النيّة الخالصة لله – سبحانه وتعالى -.

ويكون هذا العطاء المتولّد أسلوباً من أساليب التعبير عند الإنسان، يعبّر بعطائه عن شيء في نفسه. ويكون هذا العطاء، حسب ما ذكرنا أعلاه، ثمرة التفاعل بين العوامل التي عرضناها، تفاعلاً يمضي على قدر حق من الله – سبحانه وتعالى -. وكل عامل من هذه العوامل قد يضعف فيضعف أثره. ولا بد أن نشير إلى أنه لا يمكن للعاطفة أن تعمل وحدها، ولا للتفكير أن يعمل وحده. إنهما يعملان معاً، مع سائر القوى، ولكن تختلف نسبة العاطفة والتفكير من حالة إلى حالـة، ومن واقع إلى واقع، ومن موضوع إلى موضوع، ومن إنسان إلى إنسان.

ب ـ الفن والأدب بعامة (9):

فالفن والأدب بعامة عطاء يصدر على النحو الذي عرضناه، ليمثّل أُسلوباً من أساليب التعبير، يحمل درجة من الزخرف أو الزينة أو الجمال، على قدر ارتباطه بالإيمان والتوحيد ونبعه وما يتلقاه من ري منه، ويرتفع بها ليكون فناً أو أدباً، تابعاً لفئته أو جنسه أو ملته وأصحابه.

ج ـ الفنّ الإسلامي والأدب الإسلامي (10):

هو عطاء الإنسان المؤمن وأسلوب من أساليب التعبير لديه. إنه العطاء الذي يتولّد على النحو الذي عرضناه من تفاعل العوامل التي رواها الإيمان والتوحيد فارتبطت به، حين يحمل هذا العطاء والتعبير الجمال الطاهر، ليساهم الفنّ الإسلامي في بناء حضارة الإيمان في حياة الإنسان. ولكل باب من أبواب الفن عناصره الخاصّة التي تهبه الجمال. فالأدب الإسلامي باب من أبواب الفن الإسلامي، أسلوب التعبير فيه اللغة والبيان، ترفعه خصائصه الفنيّة ليكون أدباً وترفعه خصائصه الإيمانية ليكون إسلامياً.

د ـ الجمال في الفن الإسلامي والأدب الإسلامي (11):

ينبع الجمال الطاهر في الفنِّ الإسلاميّ من الإيمان والتوحيد، وتفاعل العوامل المرويّة به في فطرة الإنسان المؤمن والخصائص الفنية التابعة لكل فن. والإسلام لا يطلق لفظة الجمال إلا على هذا ” الجمال ” الطاهر الذي ينبع من تفاعل الخصائص الإيمانية والفنية، وأما ما سواه فهو إِمَّا ” فتنة ” تحمل الشرّ والفساد، وإما “زخرف وزينة “عابرة. وللجمال كذلك عوامل ثلاثة تؤثّر فيه نابعة من العوامل السابقة كلها: ” فالنيّة ” هي العامل الموجّه الذي يفتح في الفطرة ريّ الإيمان والتوحيد، و”الموهبة” تمثل القوة المطلقة للتفاعل، و”الموازنة” هي القوة التي تنظم أدوار العوامل كلها والعناصر كلها وترتِّبها.

هـ ـ موجز خصائص الأدب الإسلامي (12):

1 إنه أدب العقيدة الإسلامية بكل خصائصها.

2 إنه عطاء الأديب المؤمن الملتزم.

3ـ ميدانه الكون والحياة كلها والإنسان، الدنيا والآخرة، من خلال تصور إيمانيّ متناسق نابع من الكتاب والسنّة.

4 اللغة العربيّة هي لغته من حيث الأساس.

5ـ إنه أدب العلم والحق، لا أدب الوهم والخرافة والأساطير.

6 إنه أدب الواقع الذي يُفهم من خلال منهاج الله.

7 إنه أدب ممتدٌّ في حياة الإنسان مع الأجيال المؤمنة الممتدة، يُمثِّل نهجاً ممتدّاً لا قطعاً متناثرة نتصيّدها من مكانٍ إلى مكان.

8 أنه أدب إنساني لأنه ينبع من حقيقة الإنسان وفطرته، ولأنه يعالج قضاياه.

9 إنه أدب عالمي، يستمد عالميّته من إنسانيته وامتدادها، وقوة أمته، وعالميّة رسالته.

10 إنه أدب له رسـالة ربّانيّة وأهـداف ربانيّـة، فهو بذلك يمثِّل حاجة للإنسان كما أن الإسلام حاجة للبشرية.

11 إن هذه الخصائص تجعل منه أدباً عزيزاً لا يذلّ ولا يهون ولا ينافق ولا ينحرف ولا يكون تابعاً.

12 إنه أدب نامٍ متطور على أسس ثابتة راسخة عميقة الجذور. لا يكون نموّه انحرافاً ولا تبعية ولا هبوطاً.

13 إنه ثمرة جهد بشري وبذل ومعاناة. فهو أدب الجهاد والبذل والعطاء. وأدب الموهبة الغنيّة. وأدب الخير والصلاح لا أدب الفتنة والفساد.

14 إنه سلاح من أسلحة الإسلام وقوة عظيمة من قواه. وأدب الحق لا أدب الباطل، وأدب الكلمة الطيبة لا أدب الكلمة الخبيثة، إنه أدب الخلق الكريم.

15 إنه أدب الحب الصادق النابع من الحب الأكبر لله ورسوله.

16 إنه أدب مسؤول، وصاحبه محاسب على كلمته بين يدي الله في الآخرة، ومحاسب في الدنيا.

17 لذلك يرتبط النصّ بصاحبه، ولا يمكن فصله عنه، إنه يرتبط ارتباط أمانة وعهد ومسؤوليّة وحساب.

18 ستظل الموعظة والوصيّة والنصيحة باباً من أبواب هذا الأدب الإسلامي، مادامت ترتقي بخصائصها الفنية والإيمانية. وهي تحمل ثروة غنيّة، وجمالاً غنيّاً في تاريخ أمة الإسلام.

19 الأدب الإسلامي ليس جديداً. ابتدأ مع بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – بخصائصه الإيمانيّة والفنيّة وامتدَّ مع العصور، ويستأنف مسيرته اليوم.

20 إنه أدب متميّز بخصائصـه الثابتـة الإيمانية والفنية، لا تنحرف مع تيارات الأدب وعواصفـه، يحافظ على استقـلاله وعـدم تبعيّته.

الشعوب بحاجـة إليه وإلى رسالته، أكثر مما هو بحاجـة لأدبها.

21 حَسْبُ الأدب الإسلامي شرفاً وعـزّة أنه ينبـع من الإسلام ويحمل رسالته ويمتدُّ معه ويكـون سلاحـاً وقوَّة له، ويكتسب منه ومن لغته الخصائص الإيمانية والفنِّيَّة.

وعلى ضوء هذه الأُسس المعروضة هنا بإيجاز والمفصّلة في مراجعها، يمكن أن نقدم التعريف التالي للأدب الإسلامي أو الأدب الملتزم بالإسلام:

تعريف الأدب الإسلامـي:

” الأدب الإسلامي باب من أبواب الفنّ الملتزم بالإسلام، وهو أشرفها وأعزّها. وهو فنّ التعبير باللغة والبيان. لغته اللغة العربيّة التي اختارها الله لدينه الحقّ بياناً معجزاً في كتابه الكريم. وهو ثمرة التفاعل بين القوى العاملة في فطرة الإنسان المؤمن، مرويَّة بريّ الإيمان والتوحيد، خاصّة التفاعل بين العاطفة والتفكير وما تحمل كلٌّ منهما من شحنات الواقع وزاده، التفاعل الذي تشعله الموهبة، فينطلق النصّ الأدبي شعلة مضيئة، يحمل جماله الفنيّ من تفاعل الخصائص الإيمانيـة والخصائص الفنيّة في فطرة الإنسان، مع صدق النيّة، وعلى قدر حق من الله – سبحانه وتعالى -، يحمل رسالة ربانيّة ويسعى للمساهمة في تحقيق أهداف ربّانيّة، لبناء حضارة الإيمان في الواقع البشري، ميدانه الكون والحيـاة والإنسـان والدنيا والآخرة، فيكون بذلك الأدب الإنساني العالمي. ”

ويمكن إيجاز هذا التعريف كما يلي: ـ

موجز تعريف الأدب الإسلامي:

” الأدب الإسلامي ثمرة التفاعل بين القوى العاملة في فطرة الإنسان المروية بالإيمان والتوحيد، تشعله الموهبة المؤمنة ليخرج الأدب شعلة غنية، جماله إشراقة التفاعل بين خصائصه الإيمانية والفنية، لغته هي اللغة العربية، وميدانـه آفاق الكون والحياة والإنسان، يحمل رسالة ربانية ويسعى إلى أهداف ربانية، ليساهم في بناء حضارة الإيمان في الأرض، وليكون بذلك الأدب الإنساني العالمي “.

من هذا التعريف نحـدِّد العوامل المولّدة للأدب الإسلامي: الإيمان والتوحيد، النيّة الخالصة لله – سبحانه وتعالى -، العاطفة، الفكر، شحنات عليهما من زاد الواقع، وصدق العلم بمنهاج الله، الموهبة، قدر الله ومشيئته. ويظل الفضل في كل عمل كريم من الأدب الإسلامي لله – سبحانه وتعالى -. ويُبيّن لنا هذا التعريف أثر الواقع ودوره. كما يبيّن أن الأدب الإسلامي هو عطاء الأديب المؤمن، وأنه يحمل رسالة في الحياة وله أهداف يسعى إليها، يساهم بها في بناء حضارة الإيمان. ويبيِّن هذا التعريف أيضاً أن للأدب الإسلامي خصائص إيمانيّة وخصائص فنيّة، وأن الجمال فيه ينبع من تفاعل هذه الخصائص وتلك. وندرك كذلك أن الأدب ليس نتيجة تجربة شعورية فحسب، وإنما نتيجة تفاعل العاطفة والفكر، إِذ يتعذّر لإحداهما أن تعمل وحدها. ويبيّن كذلك أنّ لغته هي اللغة العربية.

وإذا قيل إنّ ” لغته الأولى هي اللغة العربية “، فربّما كان ذلك مسايرة لواقع تفرّق فيه المسلمون أقطاراً وشعوباً وشيعاً، وهان شأن اللغة العربيّة بينهم. فاللغة العربية هي لغة المسلم، و لغة عبادته وعطائه، ولغة أمّة الإسلام كما كانت عندما كان المسلمون أمّة واحدة، حين امتدّت اللغة العربية إلى المسلمين وإلى غير المسلمين. ولم يعرف المسلمون في عصورهم الأولى أدباً بغير اللغة العربية، وبرز علماء كثيرون باللغة العربية وآدابها من غير العرب.

ويشير التعريف إلى أن الأدب الإسلامي أدب مجاهد، أدب طاهر، ينبع من فطرة الإنسان السويّة التي لم تشوَّه ولم تفسده سوء النية والآثام والمعاصي. ولأنه ينبع من فطرة الإنسان فهو إنسانيّ بطبيعته وجوهره، ولأنه يحمل رسالة ربانيّة فهو عالمي. فإذا فسدت الفطرة وتخلّى الأدب عن رسالته فقد منطلق إنسانيّته وعالميته وفقد جوهر خصائصه.

ويكون للأدب الإسلامي خصائص وسمات تميّزه من غيره من الآداب، وتساهم في بنائه وعطائه. فله خصائص إيمانيّة مغروسة في فطرة الإنسان المؤمن كما ذكرناها قبل قليل. وله خصائصه الفنيّة أيضاً، يمكن أن نوجزها بما يلي: الصياغة الفنيّة، الجنس الأدبي، الموضـوع الفني والفكرة الموحية، الشكل، الأسلوب. ويكتسب الأدب من هذه الخصائص الفنيّة أربع صور للجمال المؤثر: النغمة والجرس، الصورة، الحركة، الفكرة الموحية.

وبصورة عامة فإن جميع العوامل والعناصر للجمال في الأدب الإسلامي تأخذ رواءها إشراقتها من مصادر ثلاثة: الإيمان والتوحيد، الكتاب والسنة، اللغة العربية، تجتمع كلها في فطرة الأديب المسلم المؤمن، في فطرته النقيّة الصافية السليمة. لتطلق جوهر الأدب الإسلامي بتفاعل الخصائص الإيمانية والفنيّة.

ويأتلق الجمال الفنّي في الأدب الإسلامي حين يصدق الأدب في حمل رسالته الربانيّة، وحين يساهم في جهاد كريم لتحقيق الأهداف الربانيّة، ولا ينحرف ولا يتيه ولا يهبط.

فلابد للأدب الإسلامي أن تتوافر فيه الخصائص الفنيّة لترفعه ليكون أدباً، ولا بد أن تتوافر فيه الخصائص الإيمانية حتى ترتقي به ليكون إسلامياً. ويأتلق الجمال المتميّز المؤثر بتفاعل الخصائص الإيمانيّة والخصائص الفنيّة في فطرة الإنسان.

وأخيراً، أقول إني قد عرضتُ وجهة نظري هذه بتفصيلها مع البيّنة والحجة من منهاج الله، ومن الواقع الذي نفهمه من خلال منهاج الله، ومن قواعد اللغة العربية العظيمة، في كتبي التي سبق أن أصدرتها منذ تأسيس الرابطة إلى يومنا هذا. وقدّمت معها نماذج تطبيقية من الشعر والملاحم تلتزم النهج الذي أعرضه.

—————————————-

(1) التعريف: مقدمة ابن خلدون: 3/1277.

د. عدنان علي رضا النحوي ـ الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ـ الباب الأول ـ الفصل الأول.

(2) التعريف: د. محمد مندور: الأدب ومذاهبه ـ (ص: 6).

(3) التعريف: سيد قطب النقد الأدبي وأصوله ومناهجه ـ (ص: 9).

(4) التعريف: محمد قطب: منهج الفن الإسلامي (ص: 6).

(5) التعريف: مجلة البعث الإسلامي ـ الهند: عدد رمضان / شوال سنة 1401هـ ـ (ص: 68).

(6) التعريف: نفس المصدر السابق.

(7) التعريف: د. جابر قميحة ـ مجلة الوعي الإسلامي العدد 376 ـ ذو الحجة 1417هـ / 1997م.

(8) قانون الفطرة وولادة النص الأدبي: د. عدنان علي رضا النحوي:

الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ـ الباب الثاني ـ الفصل الأول.

النهج الإيماني للتفكير ـ الباب الرابع ـ الفصل الثاني.

الأسلوب والأسلوبية ـ الباب الرابع ـ الفصل الأول والفصل الثاني.

التربية في الإسلام ـ النظرية والمنهج ـ الباب الثالث ـ القسم الثاني.

(9) د. عدنان علي رضا النحوي: النقد الأدبي المعاصر: الباب الثالث ـ الفصل الثاني (ص: 135 ـ 140).

(10) المصدر السابق

(11) د. عدنان علي رضا النحوي: الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته: الباب الخامس بفصوله الخمس ـ (ص: 231 ـ 414).

النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء: الباب الثالث ـ الفصل الثاني: 141 ـ 145.

(12) د. عدنان علي رضا النحوي: أدب الوصايا والمواعظ: الباب الأول الفصل الأول (ص: 19ـ 23).

الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته:الباب الأول ـ بفصوله الأربعة ـ (ص: 22ـ 80).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى