مقالات

فلس أم طير؟! «بين عبثية السياسي ووسوسة العالم»

 

كاتب وباحث إسلامي
كاتب وباحث إسلامي

أنور الخضري

الدين سياسة كما أن السياسة دين، لا أحتاج أن أبرهن على هذه الحقيقة التي مدارها أن مجال عمل الموضوعين هو التجمع الإنساني وحركته في الحياة، وإخضاعه لسلطته. وهو ما لخصه نبي الرحمة – عليه الصلاة والسلام – وهو يقول: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون»، وقال أيضاً: «العلماء ورثة الأنبياء».

والشخصية الجامعة بين الدين والسياسة والقدوة والقيادة نادرة في التاريخ؛ لذلك لم تدم خلافة النبوة أكثر من ثلاثين عاماً، برغم توفر الرجال المؤمنين من الرعيل الأول. ثم صار الأمر ملكاً ورحمة، ثم ملكاً عاضاً ثم جبرياً؛ وهو مسار طبيعي لانفصام الدين عن السياسة، وانكفاء العلماء على جوانب القدوة وانسحابهم من موقع القيادة.

في «خلافة النبوة» يكون القائد محل قدوة، جامعاً بين زمام العلم وخطام السلطة. وعندما ينفصم الأمر، ويستقل كل طرف عن الآخر يكون لكل طرف أئمته: الحكام والعلماء، وينشأ تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، بأنهم: الحكام والعلماء! وتكون العلاقة بينهما كعلاقة «وجهي العملة: الفلس والطير»[1]، لا يمكن أن تستقر على الوجهين معاً، بل لا بد أن يغلب أحدهما على الآخر. ولأن أكثر الناس إنما يتبعون منطق القوة لا قوة المنطق فإنهم يدخلون في طاعة الحكام من الملوك والسلاطين والأمراء أكثر من طاعتهم للعلماء.

المشكلة في تفسير هذا الصراع يختصرها البعض – وخاصة المفكرين – في السيف، واضعاً التهمة كاملة على الحكام، ومبرئاً ساحة العلماء من هذا الفصام النكد. وقليل من يدرك أن الفساد ينشأ من انفصام جانب القدوة عن القيادة، وتفكير عالم الشرع عن تفكير صاحب السلطة، وانحسار مفهوم الدين عن السياسة، بسبب العلماء أنفسهم. ما يولد الخصومة بين الأمرين لينفكا في الشخصية الإسلامية، فإما القدوة وإما القيادة، وإما العلم بالشرع وإما جاه السلطة، وإما الدين وإما السياسة!

ومن الطبيعي عند انفكاك الأمرين أن يكونا كوجهي العملة، لا يظهر أحدهما إلا بغياب الآخر، لأنهما والحالة هذه ضدان لا يجتمعان. فإنه لا يجتمع سلطانان في محل واحد. يقول ابن تيمية – وهو يوضح دور العلماء أنفسهم في ابتعاد الحكام عن الشرع: «وهذا كما يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين وفي تصانيفهم، إذا احتج عليهم محتج بمن قتله النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر بقتله؛ كقتله اليهودي الذي رض رأس الجارية، وكإهداره لدم السابة التي سبته وكانت معاهدة، وكأمره بقتل اللوطي.. ونحو ذلك. قالوا: هذا يعمله سياسة. فيقال لهم: هذه السياسة.. إن قلتم هي مشروعة لنا فهي حق وهي سياسة شرعية، وإن قلتم ليست مشروعة لنا فهذه مخالفة للسنة. ثم قول القائل بعد هذا سياسة: إما أن يريد أن الناس يساسون بشريعة الإسلام أم هذه السياسة من غير شريعة الإسلام؟! فإن قيل بالأول فذلك من الدين، وإن قيل بالثاني فهو الخطأ. ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين. وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام نبي. وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء يكثرون»؛ قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «أوفوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم».فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافياً في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع. وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال: الشرع والسياسة! وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة، سَوَّغَ حاكماً أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة.

والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات! والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة؛ وخيرهم الذي يحكم بلا هوى، وتَحرَّى العدلَ، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك. وكذلك كانت الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل المدينة يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها، من جعل صاحب الحرب متبعاً لصاحب الكتاب، ما لا يكون في الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل العراق ومن اتبعهم، حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم. وقد قال الله تعالى في كتابه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ…} [الحديد: 25] الآية.

فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]. ودين الإسلام أن يكون السيف تابعاً للكتاب. فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعاً لذلك، كان أمر الإسلام قائماً. وأهل المدينة أولى الأمصار بمثل ذلك؛ أما على عهد الخلفاء الراشدين فكان الأمر كذلك، وأما بعدهم فهم في ذلك أرجح من غيرهم. وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه: كان دين من هو كذلك بحسب ذلك»[2].

إن إضافة «الشرعية» إلى مصطلح «السياسة» في الموروث الفقهي والفكري لعلماء الإسلام لدواعٍ تاريخية أشكل على كثير من المتأخرين، الذين اعتبروا أن مصطلح «السياسة الشرعية» مصطلح ديني أو فقهي؛ ليبحثوا له عن تعريف يناسبه؛ فوقعوا في إشكالية عطلت مفهوم السياسة في الوعي المعرفي لدى المسلمين. وعوضاً عن معالجة القائم بالسياسة أو إعداد المأمول به أن يتولى القيادة أو السلطة لإدراك السياسة باعتبارها فناً مستقلاً وموهبة ربانية يمكن تطويرها بالدربة والتمرين، إذ بها تصبح نصوصاً يجري البحث عنها في بطون الكتب، وقيوداً تثقل القائم بالعملية السياسية بالأغلال والآصار، حتى يكون في أمره بين خيارين:

إما اتباع هذه النصوص والنقول على وجه يناقض الواقع وظروفه، وما تقتضيه السياسة فيها من رأي وموقف، فتضيع معه المصالح وتتجاوز في ظلها الحدود؛ لوقوع المشقة والحرج الذي لا يتحمله عموم الناس عادة، فيخرجون منها إلى الحيل بله المخالفة الصريحة!

وإما الأخذ بالرأي والتدبير، بعيداً عن هذه النصوص والمأثورات؛ وعندها يتم وصفه بمخالفة الشرع والهدي وسبيل المؤمنين! ممن لا معرفة لهم بحقيقة السياسة.

وهذا الصراع ذاته الذي أشار إليه ابن تيمية – رحمه الله – فيما نقلته سابقاً.

إن حقيقة السياسة القيام على الشيء بما يصلحه، ولا يكون ذلك إلا بنوع قيادة وسلطة، ولذلك عرف ابن منظور «السَّوَس»: بأنها الرياسة! ومنه يقال «سُوِّس الرَّجُلُ: إذ ملك أمرهم». والسياسة فن وموهبة يقف وراء نجاحها استعداد فطري، كونها تتعامل مع التوقعات الغيبية، والجانب المرئي واللامرئي من المجتمعات، وجمع من التناقضات والتباينات في الأشخاص والعلاقات والبنى النفسية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية وغيرها؛ وكونها توظف جميع الملكات في الاتصال والإقناع والتوجيه والحشد وحل المشكلات ببداهة. وهذا لا يلغي الجانب العلمي المعرفي منها والقائم على السننية، بحيث تخضع لقواعد وقوانين يمكن اكتشافها وإعمالها من قبل المسلم والكافر.

إن الطب هو ذاته الطب في طبيعته ووظائفه عند المسلمين وغير المسلمين. فهو يقوم على اكتشاف السنن والتغيرات وتأمل العادات والأعراض وتحليل العلاقات والمؤثرات المتعلقة بالجسد؛ ثم استخلاص الأدوية المناسبة لكل داء، والمعالجات المناسبة لكل حالة. وبرغم اتحاد الأدوية إلا أن أساليب المعالجات تختلف؛ وهو ما يقرره الطبيب وليس الصيدلاني!

وما يضيفه الدين في الطب هو نفي ما يدخل عليه من العقائد الخاطئة، والمعارف الفاسدة، والأوهام والدجل؛ معيداً العقل البشري إلى المسار الصحيح في التجربة والتأمل، والتحليل والربط، والاستنتاج. لم يأت الدين بطب مستقل، لأن منطق الطب منطق التجربة والخبرة، والتغير والتطور، والاختلاف والتباين، لا منطق الوحي الإلهي. وإلا تعطلت قدرة الإنسان على الاستجابة لجديد الأوبئة والأمراض والأعراض.

وكذلك هي السياسة، تعالج المجتمعات كمكون عضوي متجانس يشكل في عمومه جسداً واحداً. وهذه المعالجات هي إسقاطات للأدوية بما يناسب كل مجتمع زماناً ومكاناً. وتحويل السياسة من منطق التجربة والخبرة إلى منطق القطعيات والمنقولات والتقليد والجمود تعطيل لدور السياسة والسياسي. ونظراً لحاجة الناس إلى السياسة – كحاجتهم للدين – فإنَّهم لن يقبلوا بسياسة جامدة، وسيتطلعون إلى سياسة تستجيب لاحتياجاتهم وظروفهم وأحوالهم. ومن هنا ينشأ فساد عن الفساد الأول الذي يعطل السياسة كعملية إنسانية تجريبية بالأساس.

لهذا يقول ابن تيمية: «وإن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس»! فالقضية ذات بعدين: مبتدؤها من العلماء الذين اقتصروا في مفهوم «وراثة الأنبياء» على التعليم، ثم الحكام الذين استبدلوا بالشرع «المؤول» شرعاً «مبدلاً» لظنهم أن الشرع يضيق عن السياسة!

وهذا التناقض تولد في الأمة باكراً لأنه لما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف، وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم: «رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الإيمان وكمال الدين. ثم منهم من غلَّب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك. ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك (أي السلطان) فأخذه معرضاً عن الدين، لاعتقاده أنه منافٍ لذلك؛ وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل، لا في محل العلو والعز».

ويقول ابن تيمية: «وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدين العجز عن تكميل الدين، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء، استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها. وهاتان السبيلان الفاسدتان – سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين – هما سبيل المغضوب عليهم والضالين».

هذه المشكلة تواجه العاملين في الحقل الإسلامي في الأحزاب السياسية كلما واجهتهم مواقف تضطرهم لخيارات صعبة، وبدائل ضرورية غير مرضية، ومخالفات تستوجبها حالات استثنائية. ففريق ينزع إلى مفهوم «الشرع» وفريق ينزع إلى مفهوم «السياسة»! وتعود عجلة الخصومة بين المفهومين ليكونا وجهين لعملة واحدة: فإما «فلس» وإما «طير»!

أما ابن تيمية فيقول: «فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه؛ فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتناب ما يمكنه من المحرمات لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار. ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير: لم يكلف ما يعجز عنه؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى»[3]؛ و«إذا كان ذلك مستلزماً لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك، صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فيكون واجباً أو مستحباً، إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب. بل لو كانت الولاية غير واجبة، وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد»[4].

إن البعض يجعل من واجب «الحكم بما أنزل الله» وأمنية «تطبيق الشريعة» مفهوماً معوقاً لتمكين الأخيار شيئاً فشيئاً من السلطة، ووصولهم إلى مواقع القرار والتأثير والنفوذ ومن ثم السلطة، لا على سبيل القهر ولكن على سبيل الرضا والقبول. وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»[5] إشارة إلى أهمية قبول أمة الإسلام بحاكمها، وأن اختيار الحاكم كما أنه مشيئة إلهية إلا أنها مشيئة بشرية بالأساس: إن خيراً أو شراً. لأن من المقرر أنه {وَإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: ١١]، وهذه الإرادة ليست ناتجة عن كراهية الله لخلقه ولكن عن ظلمهم هم لأنفسهم؛ لذلك جاءت هذه العبارة بعد قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١]؛ فنفى مشيئة التغيير عن نفسه إلا أن تتغير مشيئة الناس: إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.

وهذا القبول والاختيار من البشر لحكامهم يقوم على أساس غريزة فيهم لاختيار الأرحم والأرأف بهم، والأعدل لهم، والأرعى لمصالحهم وشؤونهم، ما لم تتدخل أمور خارجة في حرف هذا الاختيار والقبول. فإن المجتمعات الطبيعية الراشدة تفرز خيارها والأصلح منها لسياستها، بقناعتها. لذلك لم يفرض الإسلام على الناس خياراً غيبياً، بل تركهم لوعيهم وخبرتهم وظروفهم. ولمـا كان أصحاب محمد – عليه الصلاة والسلام – أكمل الناس صلاحاً وعقلاً ووعياً جاءت خياراتهم لخير الناس وأصلحهم بعد نبيهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. ولما استبد بالأمر من دون الأمة بدأ الحديث عن طرق التغلب وولاية العهد وغيرها، فتغلب شرار الأمة على خيارها.

إنَّ من واجب الحركات الإسلامية اليوم أن تعيد السياسة لحقيقتها الإنسانية، ووظيفتها الاجتماعية، بدون إيجاد تناقض بينها وبين الدين، ليكون داخل كل حزب سياسي إسلامي انقسام بين: جناح شرعي وجناح ليبرالي!! وتيار يقدم نفسه باعتباره حامي حمى الدين وتيار متطلب للمصالح منسلخ من الدين!

وعلى علماء الإسلام أن يعودوا لموقع الوراثة للمقام النبوي بكل وظائفه، ليكونوا محل القدوة والقيادة. أما أن يمارسوا وظيفة «رجال الدين» على «رجال السلطة» ما يعزز الانفصام النكد ويسمح بتمرير العلمانية التي تنشأ أول ما تنشأ كاستجابة لهذا الانفصام بتقديم الرأي على الدين، ثم تغليب الرأي على الدين!

وإذا كان اختيار الناس لحكامهم يأتي كإفراز طبيعي لوعي المجتمع وشعوره بالنفع والخيرية، فإنَّ عليهم أن يسبقوا إلى هذا الوعي والشعور من خلال الخطاب والممارسة الحقة لمفهوم: يسوسهم الأنبياء! للخروج من عبثية السياسي ووسوسة العَالِم. ولكن من خلال رضا الناس وقبولهم، لا بإلزامهم وجبرهم وتوظيف الخطاب الشرعي لأشخاصهم. يقول ابن تيمية في شأن مبايعة خير الخلق في هذه الأمة بعد نبيها: «ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه، ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة»[6].

إن شخصية أبي بكر الرحيمة، والعادلة، والمحسنة، والنافعة، هي ما فرض هذا الاختيار المجمع عليه. جاء في الحديث عند مسلم، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟»، قال أبو بكر: أنا؛ قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟»؛ قال أبو بكر: أنا؛ قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟»؛ قال أبو بكر: أنا؛ قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟»؛ قال أبو بكر: أنا؛ فقال رسول الله: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة». ولو ذهبنا نستقصي هذه الأخلاق والفضائل والأعمال لأبي بكر لطال المقام[7].

وعلى هذا يتسق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس»، وحديث: «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله»؛ مع قوله عليه الصلاة والسلام: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبدَ نَادَى جِبرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فأَحبِبهُ فيُحِبُّهُ جِبرِيلُ، فَيُنَادِي جِبرِيلُ في أَهلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فأَحِبُّوهُ فيُحِبُّهُ أَهلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لهُ القَبُولُ في الأَرضِ»[8]. فالقبول مصدره حبُّ الله للعبد، الذي يكون سببه نفع هذا العبد للناس. والجزاء من جنس العمل.

والخلاصة.. أنَّ على العلماء تصدر المشهد السياسي بما هي عليه السياسة في الحقيقة، للقيام على المسلمين بما يصلحهم، لا أن ينصبوا من أنفسهم قلاعاً للدين في حين تضيع مصالح الناس ودينهم معاً. والمهم في ذلك كله أن تستهدف سياستهم – بعد رضا الله تعالى – القبول الذي يعزز قدرتهم وتمكنهم من تحكيم الشريعة التي يضعونها هدفاً نصب أعينهم.

……

[1] العملة المعدنية في كثير من الدول العربية التي يتضمن شعارها الرسمي طيراً، لها وجهان: أحدهما يشير إلى قيمة العملة بالعدد (الفلس)، والآخر يشير إلى رمز الدولة (الطير).

[2] مجموع الفتاوى: ج20/391-393.

[3] مجموع الفتاوى: ج28/394- 396 بتصرف، وجميع النقولات السابقة التي لم أشر إليها من ذات المرجع.

[4] مجموع الفتاوى: ج20/55.

[5] رواه البخاري ومسلم.

[6] منهاج السنة النبوية: ج6/455.

[7]   أما ما ورد من أن بعض الصحابة قالوا: رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا. فليس هو المعول، ولا المشهور. لذلك يقول الشيخ أبو زهرة – منتقداً هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به: «اتّخذ بعض الناس من هذا – النص – إشارة إلى إمامة أبي بكر العامة للمسلمين، وقال قائلهم: لقد رضيه عليه الصلاة والسلام لديننا أفلا نرضاه لدنيانا! ولكنَّه لزوم ما ليس بلازم؛ لأنَّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة، فلا تكون الإشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة، الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة، أن احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين»؛ المذاهب الإسلامية: ص37. وما ذهب إليه – رحمه الله – صحيح، فإنه قد أوكل الصلاة بغير أبي بكر، ومعلوم أنَّ المناط في الولايات القوة والأمانة والكفاءة كما هو دأب الرسول صلى الله عليه وسلم في اختيار ولاته وعماله وقادته. يقول ابن حزم في كتابه «الفِصل»: «أمَّا مَن ادّعى أنَّه إنَّما قُدّم قياساً على تقديمه إلى الصلاة فباطل بيقين؛ لأنَّه ليس كلُّ مَن استحقَّ الإمامة في الصلاة يستحق الإمامة في الخلافة، إذ يستحق الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً، ولا يستحقُّ الخلافة إلا قرشيٌّ، فكيف والقياس كلّه باطل»؛ ج4/109.

[8] رواه البخاري. وهذا الحديث يتناول المحبة المتعلقة بالقبول العام، لا المحبة الخاصة التي وردت في حديث: «إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»، رواه البخاري. فهذه المحبة في مقابل العبادة ذات النفع الخاص، فكان الجزاء خاصاً.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى