مقالات

إنقاذ المستقبل!

ناصر يحيى  كاتب صحفي
ناصر يحيى
كاتب صحفي

المستقبل المقصود به هنا هو: التعليم.. فليس هناك خلاف في أن جودة التعليم ومخرجاته هي الأساس السليم لبناء النهضة الاقتصادية والعلمية في اليمن الجديد. وكما كان مؤتمر الحوار الوطني معنياً في الأساس بإصلاح الممارسة السياسية وآلياتها، وجعلها أدق تعبيراً عن الإرادة الشعبية؛ فالتعليم كذلك بحاجة اليوم إلى مؤتمر/ خطة شاملة لإصلاح العملية التعليمية بكل أركانها! فاليمن يستحق أن يحظى بعملية تعليمية سليمة ومتطورة ومجودة كما هو الحال في حاجته إلى ممارسة سياسية سليمة ونزيهة!.

طوال الخمسين السنة الماضية؛ انعكست الصراعات السياسية والفكرية بين الفرقاء اليمنيين على التعليم من جهة تحديد المرجعية العليا والهوية الخاصة به، وكان من أبرز مظاهر ذلك الصراع التنافس الشديد تحديداً حول “المناهج”، وانشغال الجميع بها إلى درجة دفع البلاد أحياناً إلى حافة الهاوية! وللأسف الشديد فقد أدى ذلك إلى إهمال الجوانب الأخرى المهمة في العملية التعليمية حتى وصلنا إلى الحضيض.. والأكثر أسفاً أن الصراع ما يزال مستمراً بأقنعة أخرى، ومتأثراً إلى حد كبير بالماضي وصراعاته حول الهوية، وما استجد من أجندة داخلية وخارجية!.

كان طبيعياً أن يكون هناك تطوير أو تعديل للمنهاج التعليمي مع عهد الوحدة على أنقاض منهجين مختلفين هوية وأهدافاً وإن تشابها في السيئات، وجرى الأمر يومها محكوماً بعقلية الصراع السياسي والفكري القديم، وفي العقدين الأخيرين؛ تضاعفت الأثقال على المناهج من خلال التوجه الرسمي لتعديل أو تطوير المناهج وفق المتغيرات الدولية؛ بالإضافة للمستجدات المحلية، وبدأنا نرى مشاريع متوالية لتطوير المناهج لإدماج مفردات خاصة بالبيئة، ومكافحة الإرهاب، ومكافحة التطرف، والديمقراطية وحقوق الإنسان، والمرأة…إلخ المفاهيم والقضايا التي وجد من في السلطة أنه من الضروري لمواكبة ما يدور حولنا في العالم، وأحياناً من باب البريستيج؛ إدماج مفاهيمها في منهاج التعليم! ومع اختتام مؤتمر الحوار الوطني كان أيضاً لا بد أن تدخل المناهج التعليمية مرحلة جديدة وأكثر شمولاً وجذرية من التعديل والتطوير وفق مقرراته، وتم الإعلان بالفعل عن تشكيل لجان لتطوير المناهج وفق توصيات مخرجات مؤتمر الحوار الوطني!

ومع إقرارنا بأهمية تطوير محتوى المناهج؛ إلا أن هناك ملاحظتين أو أكثر على ذلك.. فقد اكتسب الأمر بعداً سياسياً ناتجاً عن الصراعات السياسية المستمرة، ولم يتحول إلى مهمة وطنية شاملة، واتسم بالتالي بالعشوائية، وفي بعض المراحل كان الأمر يتم بسرية عمل الأجهزة الأمنية بحكم وجود مزدوجي العمل، وبحكم الهيمنة التي اكتسبتها على كل شيء في السنوات الأخيرة من عمر النظام السابق؛ بل أخبرني أكثر من واحد من التربويين المشاركين في إعداد المناهج أن الصيغة النهائية للكتاب تتم خارج نطاق اللجنة التربوية المكلفة بذلك! وأما ثانياً: فقد خضعت عملية تطوير المناهج للمؤثرات الأجنبية؛ وخاصة في مناهج المواد الإنسانية! وصحيح أنه من المقبول أن يستفاد من الخبرات الأجنبية في إعداد مناهج المواد العلمية التي لا يوجد حول مفاهيمها خلاف بين البشر؛ لكن من المعيب أن يصل الأمر إلى مقررات كاللغة العربية والتاريخ والمواد الاجتماعية التي تعد من المحظورات الوطنية في أي بلد على أي أجنبي، وعلى أي ثقافة ومفاهيم تتعارض مع ثوابته! وتخيلوا مثلاً هل يمكن أن تسمح الولايات المتحدة لخبراء روس بالمشاركة والإشراف على مثل ذلك، أو أن يحدث العكس! أو تسمح الصين لخبراء بريطانيين أن يشاركوا في كتابة المناهج التي تعلّم أبناءها تاريخهم، وثقافتهم، وقضاياهم الاجتماعية المحلية؟

الأمر المهم في رأينا – بعد فترة عمل 30 عاماً في حقل التربية والتعليم- أن تطوير التعليم اقتصر أو ركز جهوده على الكتاب؛ وهو أحد أركان المنهج على العكس مما هو شائع أنه هو المنهج؛ وأغفل جوانب مهمة مثل: السلّم التعليمي نفسه، وما يفرض فيه من مناهج ومقررات.. أو بمعنى آخر فلسفة الاحتياجات الضرورية لكل مرحلة وبما يناسب سن التلاميذ وقدراتهم العقلية والنفسية، ومعايير نجاحهم وانتقالهم من سنة دراسية إلى ما يليها؛ وبحيث يتم ضمان ان يكون التلاميذ قد استوعبوا ما هو مطلوب منهم، ونجحوا فيه باقتدار!

ولذلك ظل منهاج المواد الاجتماعية على سبيل المثال يهتم بتدريس تلاميذ الصف السابع وما بعدها قضايا غريبة عن أعمارهم وعقلياتهم ونفسياتهم مثل  صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، والخطط الخمسية! والداهية تدريسهم أسباب النهضة الصناعية في أمريكا الجنوبية تماماً كما كان قبل زمن يدرّسهم أسباب نجاح أو التوسع في زراعة الأرز البسمتي في باكستان! ولذلك وجدنا تلاميذ في المرحلة الثانوية يعانون من ضعف شديد في القراءة والكتابة لأن المنهج لا يوفر لهم وسائل ناجعة للتخلص من هاتين الآفتين منذ الصفوف الأولى.. أما كيف نجحوا حتى وصلوا فهذا أمر يُسأل عنه المغرمون بالرز البسمتي الباكستاني وكرة القدم اللاتينية الذين شغلوهم بما لا ينفع على حساب الأنفع وليس فقط النافع! ووجد تلاميذ في السنة الأخيرة من التعليم العام لا يفهمون من المواد الأساسية التي تعلموها مثل قواعد النحو واللغة الإنجليزية شيئاً رغم أنهم درسوها سنوات طوال أما كيف يحدث هذا فالأمر لا يشغل بال الكثيرين!

ما نريد قوله إن الاندفاع الدائم وراء إغراء مطلب تطوير المنهج (بمعنى الكتاب) لا يكفي لتوفير جودة حقيقية للتعليم؛ ما لم يؤخذ في البال تطوير جوانب أخرى من العملية التعليمية.. وقد ضربنا في مرة سابقة مثالاً على الحاجة لتطوير التعليم في المرحلة الثانوية بقسميها الأدبي والعلمي، وقلنا إنه من الباطل استمرارهما على هذه الكيفية المعتقة.. وقد كنت أقوم بتدريس منهج النحو لطلاب دبلوم المعلمين لما بعد الثانوية المتخصصين في قسم اللغة العربية، والمؤسف أن مقررات القسم العلمي الثانوي تفوقه حجماً وصعوبة في المضمون؛ بل إن هذا المنهج جمع أصعب الدروس النحوية لطلاب غير متخصصين.. دون ان ننسى أن طلاب الدبلوم كما الجماعة يدرسون مواد محدودة وفي تخصصهم فقط!

خلاصة هذه التنهيدة أن تطوير المناهج وفق مقررات الحوار أو وفق أي مقررات لا يضمن جودة حقيقية للتعليم، ما لم توضع العلمية التعليمية كلها تحت المجهر.. وتشرف الوزارة والدولة أولاً على مناقشة عامة علنية في كل وسائل الإعلام لنسمع ونتعرف على كل الآراء ووجهات النظر.. ويتواجه الرأي بالرأي والفكرة بالفكرة فإن مشاكل التعليم بل مآسيه الموروثة أكبر من مجرد عملية تطوير لا تمس جوهر المشاكل والعيوب المتجذرة!

المصدر أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى