الإخوان والسلفيون في مصر.. خلافات الفصيلين الإسلاميين في القديم والحديث
الرشاد برس _ وكالات
يلحظ المتابع لسير العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي في مصر أنها لا تسير على نمط واحد، بل تتفاوت حسب مجريات الأحداث ومتغيرات الأوضاع، فيما يشبه المنحى الذي يصعد أحيانا ويهبط أحيانا أخرى.. فهما معًا بين تعاون وشراكة في إطار من الأخوة الإسلامية، وهذا يمكن أن ترصده أمام قضايا ومواقف عدة، لكن شراكتهم غالبا ذات عمر قصير في أوقات التنافس وعندما يطفو إلى السطح بينهما الخلاف في الرؤية السياسية.
خلافات الفصيلين الإسلاميين في القديم والحديث
تحرير منحنى العلاقة بين “الإخوان” و”السلفيين” في مصر
علي عبدالعال
ـ ويعود ذلك بالأساس إلى عدد من الأسباب، أهمها فيما يتعلق بمسألة التعاون والشراكة:
1ـ تشابه المنهج الفكري للجماعتين إلى حد كبير، فضلا عن الأهداف والقواسم المشتركة.. حيث تستمد الحركة السلفية منطلقاتها الفكرية والعقدية من “المنهج السلفي” الذي هو منهج “أهل السنة والجماعة” الذي يقوم على أخذ الإسلام من أصوله المتمثلة في الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. وهو نفس المنهج الذي تقوم عليه حركة الإخوان المسلمين، وإن بقي الفارق بين الجماعتين في مدى الإلتزام بهذا المنهج، والأخذ منه، فضلا عن مسألة استصحاب الدليل في شؤون الحياة، ومدى الاهتمام بقضية العقيدة ومحاربة البدع، والتفاوت في الميل بين ثنائية الديني والسياسي.
2ـ هناك أيضا ما يمكن أن نطلق عليه بـ”الثوابت” المرحلية أو السياسية لدى كافة القوى والفصائل الإسلامية في مصر، هذه الثوابت تمثل قاسما مشتركا بين الإسلاميين لا يمكن إلا أن يكونوا أمامها وحدة واحدة، نظرا لوحدة المصير، ومن بين ما ينطبق عليه هذا التوصيف: التوافق على الاحتكام إلى صناديق الانتخابات والرجوع إلى اختيار المصريين منذ ثورة الـ 25 من يناير، ومن هذا الثابت يتفرع الموقف من شرعية الرئيس المنتخب، والموقف من دستور البلاد، أيضا الموقف من تصاعد احتجاجات القوى المعارضة وخروجها عن الخط السلمي.
ـ أما حالة التنافر والاختلاف التي تظهر أحيانا فتعود أسبابها إلى:
1ـ اختلاف الأولويات (السياسية والمجتمعية والشرعية) لدى الجماعتين الإسلاميتين.
2ـ نظرية “الفصيل الأقوى” فالإخوان يرون أنهم “الجماعة الأم” التي على الإسلاميين أن يقبلوا بقيادتها ويسيروا في ركابها، مراعين تاريخها وخبراتها. لكن في المقابل يؤكد التيار السلفي دائمًا على رفضه لهيمنة فصيل واحد على الحياة السياسية، خاصة في ظل وجود لاعبين آخرين، ويتحرك السلفيون على ذلك وفي مخيلتهم تجارب تاريخية عانوا في ظلها من احساس القوة لدى الإخوان.. يحكي الدكتور ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية، تجربة مر بها شخصيا، في بداية نشأة “الدعوة السلفية” في الإسكندرية، عندما حمله عدد من “الإخوان” وألقوا به خارج أحد المساجد التي كان يلقي بها كلمة.
وباعتبارها الجماعة الأكبر التي شكلت أقوى حزب سلفي بعد الثورة “النور” سيكون تركيزنا منصبا بالأساس ـ عند النظر في منحنى العلاقة بين السلفيين والإخوان ـ على (الدعوة السلفية) التي تتخذ من الإسكندرية مركزا رئيسيا لها، والتي تعد الكيان الأكبر والأوسع انتشارا والأقوى تنظيما من بين الكيانات السلفية في مصر.
البدايات الأولى للعلاقة قبل ثورة 25 يناير
لم يكن الدعاة السلفيون ـ في بدايات نشأتهم الأولى ـ بعيدين عن حركة الإخوان المسلمين فكريًا ولا تنظيميًا، إذ نشأ بعضهم في بيوت إخوانية، كالشيخ ياسر برهامي ـ نائب رئيس الدعوة السلفية ـ الذي اعتقل والده وعمه من بين من اعتقلوا من الإخوان خلال الحقبة الناصرية، بينما عمل البعض الآخر من السلفيين بين صفوف حركة الإخوان في أول حياتهم. لكن مع تأسيس جماعتهم بالإسكندرية في سبعينيات القرن الماضي ـ في الوقت الذي كانت فيه معظم قيادات الإخوان في السجون ـ رفض السلفيون العمل ضمن جماعة الإخوان، وأختاروا مواصلة تأسيس جماعتهم إنطلاقا من المنهج السلفي الذي يهتم بالعقيدة ويحارب البدع.
وقد وقعت بناء على ذلك صدامات بين الطلاب السلفيين والإخوان داخل جامعة الإسكندرية (عام 1980)، إذ كان طلاب الإخوان ما زالوا يعملون ضمن تيار الجماعة الإسلامية الطلابي الذي هم السلفيون بالخروج منه بسبب هيمنة الإخوان عليه.
وبالرغم من هذه البداية التي شهدت ما يشبه صراع الوجود بين السلفيين والإخوان إلا أن الباحث في المواقف والتوجهات يمكن أن يلحظ بسهولة هذه المساحة الكبيرة من المشترك بينهما.
إذ تنم كتابات عدد كبير من رموز السلفية عن تقدير عال لتاريخ وجهود مؤسس حركة الإخوان الشيخ حسن البنا، ولا يكاد يذكره أحدهم في ندوة أو مقال إلا ويتبع ذلك بالترحم عليه والدعاء له “رزقه الله منازل الشهداء”. ففي مقال كتبه يهاجم فيه المؤلف وحيد حامد بسبب مسلسل “الجماعة”، ينقل المهندس عبدالمنعم الشحات ـ المتحدث الرسمي باسم الدعوة السلفية ـ عن العلامة المحدث ناصر الدين الألباني، قوله: “إن كانت للأستاذ حسن البنا أخطاء فهي مغمورة في بحر حسناته، ولو لم يكن لـ”حسن البنا” إلا تجديد شباب الدعوة لكفاه ذلك”.
كما تشي كافة تصريحات السلفيين وكتاباتهم عن رغبة كبيرة في التفاهم مع العاملين بالحقل الإسلامي، ففي مقال له بعنوان “نحب كل المسلمين ولو اختلفنا معهم” يقول الشيخ ياسر برهامي: “لا شك أننا نختلف فهذه سنة الله الكونية، ولا يلزم من ذلك أن نكون أعداءً لبعضنا، فنحن حين نختلف مع غيرنا من الاتجاهات الإسلامية (…) لا ننسى أصل الولاء على دين الله”. يضيف: وإذا تكلمنا عن مخالفات بعض الاتجاهات الإسلامية “لا نتكلم من باب العداء لهم والحض على هدمهم (…) بل نتكلم من باب النصح للمسلمين والحرص على مصلحتهم في دينهم ودنياهم”.
متغيرات الثورة ومتغيرات العلاقة
في أعقاب ثورة الـ 25 من يناير وما حققته من انفتاح على الممارسة السياسية، أصبحنا أمام أحزاب سياسية يُفترض أن تكون مختلفة البرامج، ومتنافسة فيما بينها على الأرض، فضلا عن الآراء والمواقف التي تتباين حيال كل حدث، وأمام كل جديد، وعند كل استحقاق سياسي.
لكن الإسلاميين يقولون أنه ليس لديهم الاستعداد لأن يتنازلوا عن مبادئهم الدينية، أو أن يتصارعوا من أجل السياسة، خاصة وأنهم لا يؤمنون بفكرة المعارضة من أجل المعارضة.
ولذلك زادت الدعوات التي تحث على الوحدة وطرح الخلاف، والنظر إلى مساحة المشترك، وأيضا تلك التي تنادي بممارسة سياسية غير بعيدة عن روح الإسلام ومبادئه. وتبنى عدد من الرموز والقيادات الدعوية فكرة توحيد الجهود، وكان على رأس هؤلاء الشيخ محمد حسان، والشيخ محمد عبد المقصود، والشيخ أحمد النقيب، والدكتور صفوت حجازي، والدكتور محمد يسري إبراهيم، والقياديين عبود وطارق الزمر، والدكتور عبد الرحمن البر، وغيرهم الكثير من كافة ألوان الطيف الإسلامي.
وقد تجلت نتيجة لذلك حالة توافقية بين الإسلاميين تجاه الكثير من القضايا والأحداث، كما رأينا إزاء: الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والحفاظ على المادة الثانية من الدستور، ومعركة هوية مصر الإسلامية، ومليونية الـ 29 من يوليو 2011، والموقف من قضية المبادئ فوق الدستورية، والانتخابات الرئاسية، ووضع الدستور، وغيرها من المواقف الكثيرة.
لكن في الانتخابات البرلمانية الأولى بعد الثورة لم يوفق الإسلاميون في تشكيل تحالف انتخابي واحد يجمع أحزابهم، بعدما اختار “الحرية والعدالة” تشكيل التحالف الديمقراطي مع عدد من القوى والأحزاب غير الإسلامية، وخاض السلفيون الانتخابات من خلال “تحالف من أجل مصر” وهو التحالف المكون من أحزاب (النور، والأصالة، والبناء والتنمية، والإصلاح).
لكن بالرغم من ذلك خرجت تصريحات من الجانبين ترغب في اتفاق بين “الدعوة السلفية” “وجماعة الإخوان” على التزام الآداب الإسلامية في المنافسة الانتخابية، بحيث يكون تنافسا شريفا، وهو ما صرح به الشيخ ياسر برهامي، قائلا: نحن جميعا يحكمنا شرع الله سبحانه وتعالى، والمفروض أن الأمر بيننا يبنى على قوله صلى الله عليه وسلم: “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”. وأضاف: هذا نقوله للإخوة عندنا حتى لو لم يلتزم به الإخوان.
ومن جهته، دعا الشيخ محمد حسان مؤيدي “الحرية والعدالة” و”النور” إلى التآخى لنصرة شريعة الله. وطالب حسان ـ خلال لقاء جمعه والشيخ سعيد عبدالعظيم، والشيخ محمد عبدالمقصود، وأداره الدكتور صفوت حجازي على قناة “الناس”ـ مؤيدي الأحزاب الإسلامية بأن يبتعدوا عن التنازع خلال الانتخابات، وأن يستمروا فى بذل الجهد لخدمة مصر، قائلا: “لا أتمنى أن تفرقهم الكراسي والمناصب والبرلمان”، مشيرا إلى أن الأخوة الإيمانية كانت ثانى عوامل قيام دولة الإسلام فى العهدها النبوي بعد العقيدة.
ومن جانبه، وصف الدكتور محمد عبد المقصود الحزبين الإسلاميين المتنافسين بالأوس والخزرج في تآخيهم لنصرة الإسلام، وذكرهم بقول الله تعالى “لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”، موضحاً أن قادة هذه الأحزاب مطالبون بدفع الشباب فى اتجاه الأخوة الإيمانية.
وكان من نتيجة هذه الجهود أن الإخوان والسلفيين خاضوا حملة انتخابية شرسة، ومنافسة محمومة، إلا أن مشهدا تكرر أمام العديد من لجان الفرز وسجلته وسائل الإعلام. تمثل في الاحتفال المشترك بين شباب الجماعتين بعد إعلان النتيجة بفوز أحدهما وخسارة الآخر، فضلا عن التهنئة بالفوز بل والهتاف المتبادل “أيد واحدة”.
بعد انتهاء العملية الانتخابية، وفي أعقاب دخولهم البرلمان معًا، طفى إلى السطح بين الفريقين الاختلاف في الطرح السياسي والتوجه، وتجلى ذلك في مواقف وأحداث عديدة. بداية من اليمين الدستوري داخل البرلمان، الذي ذيله السلفيون بعبارة “بما لا يخالف شرع الله”، مرورا بحادثة رفع الآذان داخل المجلس، حتى الاختلاف حول النص على الشريعة الإسلامية في الدستور، والموقف من إقالة حكومة الجنزوري قبل الانتخابات الرئاسية.
وكان من نتائج ذلك انتقادات حادة وجهها الداعية السلفي الشيخ أحمد فريد، لأداء جماعة (الإخوان المسلمين) ونوابها داخل البرلمان خاصة فيما يتعلق بالموقف من قضية الشريعة، والنص عليها صراحة في الدستور الجديد (وهذا قبل التوافق فيما بعد)، قائلا: كنا نقول أن الإخوان والسلفيين سوف يكونون أغلبية في مجلس الشعب بحيث ينصرون الشريعة ويطبقونها، لكن ما حدث في الواقع ليس كذلك، الذي حدث أن الإخوان مع العلمانيين والليبراليين صاروا أغلبية في مجلس الشعب، وهم الآن ضد الشريعة أو ضد النص عليها في الدستور.
كما هاجم فريد الدكتور سعد الكتاتني ـ رئيس مجلس الشعب السابق ـ بسبب مواقفه من النواب السلفيين، قائلا: إخواننا في مجلس الشعب (يقصد النواب السلفيين) يشتكون مر الشكوى.. أحد الإخوة يقول: “أنا بتنطط على الكرسي عشان يأذن لي أتكلم فلا يسمح لي الدكتور الكتاتني”، وبعضهم يقول أننا مضطهدون في مجلس الشعب. وأضاف الشيخ: هم فعلا صاروا أقلية بالنسبة لكتلة الإخوان مع العلمانيين والليبراليين. لكن في نهاية حديثه حرص الداعية السلفي على أن يؤكد أنه لا يقصد من كلامه تجريح الإخوان، ولا يريد لأحد أن يتحامل عليهم، مراعيا لهم تاريخهم وجهودهم في الدعوة إلى الله.
وفي محاولة للتهدئة، أقترح الشيخ محمد إسماعيل المقدم ـ وهو أحد أهم رموز “الدعوة السلفية” ـ أن يتفق الإخوان والسلفيين على تشكيل لجنة تحكيم بينهما، حتى لا يحدث تعارض أمام الأزمات الشديدة التي لا مجال للتردد في اتخاذ قرار حاسم فيها، على أن يكون حكم هذه الجنة ملزما للطرفين.
وأرجع الشيخ المقدم اقتراحه إلى ما وصفه بـ “التركة الثقيلة” في مصر التي لن يقوى كيان واحد على تحملها، ومن ثم فالمفروض أن يحصل نوع من التعاون على حمل هذه الأعباء، وعدم التعارض بين الإسلاميين، وحتى نتجنب مساوئ العمل بشكل منفرد، خاصة في ظل وجود مناطق احتكاك شديدة بين الإخوان والسلفيين.
معركة الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة
قبل أن يبدأ السباق الرئاسي رسميًا بذل شيوخ الدعوة السلفية جهودا كبيرة لإقناع جماعة الإخوان المسلمين بترشيح المهندس خيرت الشاطر، متعهدين بدعمه بكل ما أتيح لهم، وهو ما وافق عليه الإخوان بالفعل، وأعلنوا ترشيح نائب مرشدهم العام رئيسا للجمهورية، لكن لم يحالفه الحظ ورفضت لجنة الانتخابات الرئاسية استمراره في السباق.
ذروة الخلاف ـ الذي كان أشبه بانقسام وشقاق بين الإخوان والسلفيين بعدما صاحبته انتقادات وتجريحات ـ تبدت بعد خروج الشاطر من السباق، ومع تعدد المرشحين الإسلاميين، أعلنت (الدعوة السلفية) دعمها الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح لرئاسة الجمهورية، رافضة بذلك دعم مرشح الإخوان وقتها الدكتور محمد مرسي، وكان من الأسباب التي بررت بها هذا الإعلان ـ الذي فاجأ الإخوان ـ أنها لا ترغب في أن يستحوذ حزب واحد على مقاليد الأمور في البلاد، وهو ما أغضب الإخوان كثيرا خاصة وقد أعلنوا دعم مرشحهم “الاحتياط” الذي لاقى حملة إعلامية شرسة من قبل أن يبدأ حملته الانتخابية باعتبار أن الجماعة جعلته بديلا للشاطر.
أصر الإخوان على الوصول لآخر الطريق في دعم مرشحهم، فنظموا حملة انتخابية طافت محافظات الجمهورية، وبذلوا خلالها جهودا مضنية، حتى قُدر للدكتور محمد مرسي أن يأتي على رأس الفائزين في الجولة الأولى بحصوله على أعلى الأصوات ويخوض جولة الإعادة أمام الفريق أحمد شفيق.
بعد خروج د.أبوالفتوح كان من الطبعي أن يدعم السلفيون المرشح الإسلامي الوحيد الذي في السباق الرئاسي ألا وهو الدكتور مرسي، وبدعمه عادت المياه إلى مجاريها من جديد بين الجماعتين.. وبذل السلفيون جهودا كبيرة في دعم مرسي معتبرين أن المعركة ليست معركة الإخوان وحدهم بل معركة كل الإسلاميين والداعمين لأهداف الثورة أمام مرشح الفلول والعسكر.
بعد فوز الدكتور مرسي ـ في أعقاب معركة انتخابية شرسة أمام شفيق ـ انتظر السلفيون قطف الثمار المتمثلة في مشاركة حقيقية من قبل الإخوان في اتخاذ القرار، بعدما بذلوه من جهود في دعم مرشحهم، خاصة فيما يتعلق بتشكيل الفريق الرئاسي والحكومة ودعمهم في معركة الشريعة الإسلامية بالدستور. لكن لا يبدو أن الأمور جرت كما يشتهون، فلم يستشيرهم الدكتور مرسي في بداية تشكيله الفريق الرئاسي، ولم تمنحهم الحكومة الأولى في عهده سوى حقيبة وزارية واحدة هي حقيبة البيئة التي رفضها حزب (النور) وطلب من الدكتور خالد علم الدين الذي كان مرشحا لها الإعتذار.
رد الفعل السلفي جاء سريعا على الإخوان، فأدان حزب (النور) تجاهله من قبل مؤسسة “الرئاسة” وفي اختيار الحكومة التي كان يتوقعها حكومة ائتلاف وطني بحسب أوزان الأحزاب السياسية في البرلمان، وفي بيان رسمي له، قال الحزب أن قياداته فوجئوا بعد خطاب تنصيب الرئيس بالانقطاع الكامل عن عملية التفاهم والتواصل سواء مع مؤسسة الرئاسة، أو مع حزب (الحرية والعدالة)، حيث تم التجاهل التام لأي تنسيق أو مبادرة تشاور، أو محاولة التعرف على الكفاءات العلمية والفنية والإدارية لـ (النور)، ورأى الحزب أن ذلك سيؤثر سلبًاً على مجريات الأمور، في وقت نتطلع فيه إلى العمل بروح جديدة تتناسب مع تطلعات وآمال الشعب.
ورأى الحزب أن الأوفق في المرحلة الحالية مشاركة جميع القوى السياسية في إدارتها، ضمانا للالتحام الوطني في النهوض بالبلاد. وفي نهاية بيانه، أكد النور أنه يكن مشاعر الود والاحترام للسادة الوزراء ورئيس الوزراء والسيد رئيس الجمهورية، ويتمنى لهم التوفيق.
وفي أعقاب عدد من اللقاءات أدارها (النور) مع أحزاب وقوى سياسية، تردد في وسائل الإعلام أن الحزب السلفي يعد لجبهة سياسية يواجه بها (الحرية والعدالة)، لكن سارع الحزب إلى النفي مؤكدا أنه لا توجد جبهات أو مواجهات ضد (الحرية والعدالة). وقال الحزب على لسان عضو الهيئة العليا الدكتور يونس مخيون وقتها: إن الاجتماع مع الأحزاب جاء لبحث المستجدات على الساحة. مؤكدا أن ما بينهم وبين (الحرية والعدالة) اختلاف في الرأي لن يجعلوه يعطل مسيرة الإصلاح.
حدث بعد ذلك ما يشبه الترضية من مؤسسة الرئاسة لحزب النور والدعوة السلفية، فاختار الدكتور محمد مرسي ثلاثة من كبار قادة الحزب وضمهم إلى فريقه الرئاسي، وهم: رئيس الحزب وقتها الدكتور عماد عبدالغفور، وعضو الهيئة العليا الدكتور بسام الزرقا، والخبير البيئي الدكتور خالد علم الدين.. وقد أقتنع السلفيون بهذا المسعى لترضيتهم متجاهلين غضبهم بسبب عدم مشاورتهم فضلا عن مشاركتهم في حكومة الدكتور هشام قنديل، وأيضا حركة التجديد التي جرت لعدد من المحافظين ولم يؤخذ من الأسماء التي طرحوها سوى مستشار لمحافظ كفر الشيخ.
أزمة حزب “النور” مع مؤسسة الرئاسة
جاءت الأزمة التي نشبت بين حزب “النور” ومؤسسة الرئاسة على خلفية إقالة الدكتور خالد علم الدين القيادي بالحزب ومستشار الرئيس لشؤون البيئة منتصف فبراير 2013 بمثابة نهاية شبه تفجيرية لفصل آخر من الخلافات بين الإخوان والدعوة السلفية. فلم تكن الإقالة سوى تفجير لفصل جديد من الخلافات بعدما بقيت مكتومة لما يقرب من شهرين.
بدأ هذا الفصل مع المبادرة التي طرحها حزب “النور” كمخرج من أزمة تجييش قوى المعارضة العلمانية وتقديم نخبها غطاء سياسي وإعلامي لموجة العنف التي استشرت في الشارع المصري على أمل اسقاط الرئيس المنتخب. وقد توافقت المبادرة مع عدد من مطالب “جبهة الإنقاذ” وكانت هي المبادرة الوحيدة التي استجابت لها الجبهة ولاقت ترحيبها حتى ظن البعض أنها مقدمة لتحالف سلفي علماني ضد الإخوان، وذلك في وقت رفضت فيه نخب المعارضة دعوات حزب “الحرية والعدالة” وأيضا مؤسسة الرئاسة للجلوس للحوار.
ومن بين عدد من المطالب، دعت مبادرة “النور” إلى تغيير حكومة هشام قنديل وتشكيل حكومة ائتلاف وطني، وأيضا تغيير النائب العام لنزع فتيل أزمة القضاء، كما نصت على الشراكة الحقيقية إذ “لا يمكن لفصيل واحد أن يحكم”. وهي نقاط تختلف تماما مع ما تراه الرئاسة وحزب “الحرية والعدالة” اللذين يريدون أن تستمر حكومة قنديل حتى الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب، ولا يرون ضرورة لتغيير النائب العام، ويعتبرون الحديث عن حكم الفصيل الواحد تعريض بهم.
أيضا جاءت المبادرة متزامنة مع معركة أخرى بين الطرفين كانت تدور رحاها داخل أروقة مجلس الشورى، بسبب القروض الربوية التي قال “النور” يجب أخذ رأي هيئة كبار العلماء فيها، وما سبقها من خلاف حول وضع المرأة في القوائم الانتخابية، فضلا عن احساس السلفيين بأن الإخوان هم من تسببوا في تفجير الشارع بسبب رغبتهم في الهيمنة على كافة مفاصل الدولة واستبعادهم القوى السياسية حتى أقرب شركائهم من الإسلاميين.
شعر الإخوان أن السلفيين بتقديمهم هذه المبادرة وجلوسهم مع جبهة الإنقاذ يتخلون عنهم في واحدة من أصعب الظروف، كأنهم يريدون أن يتنصلوا من أخطاء الإخوان في الإدارة والحكم ليتحملوا وحدهم المسؤولية، وربما استغل السلفيون ذلك في المعركة الانتخابية المنتظرة لتحقيق مكاسب في الشارع على حساب الإخوان. وهو ما اعتبره الشيخ عبدالمنعم الشحات “خروج عن التقييم الموضوعي إلى الطعن في النوايا”، مؤكدا أنه لم يسبق لحزب النور التحالف مع أي حزب غير إسلامي، مع أن الإخوان سبق وتحالفوا مع أحزاب غير إسلامية كالوفد وحزب الكرامة بقيادة حمدين صباحي آنذاك. فالمبادرة “ليست تحالفا بل حوارا، وليست إضعافا للرئيس بل استجابة لدعوته للحوار ومساهمة فى إنجاح حوار كرر الرئيس مرارا أنه يريد نجاحه”.
كما أوضح رئيس “النور” يونس مخيون رؤيتهم في أن الرئيس مرسي “خط أحمر ويجب أن نفديه بأروحنا ويجب على الجميع التكاتف خلفه ودعمه”. مؤكدا: “لا نقبل الإساءة له فهي إساءة لنا جميعا، ولكن نريد منع اﻷسباب التي تزيد من السخط العام عليه”، بهذه المبادرة.
توضيحات السلفيين للإخوان لم تجد نفعا، فرأينا فصلا من الخلاف غير المسبوق في حدته، خاصة مع الحرب الكلامية التي صاحبته والتصريحات النارية والأسلوب الذي تصرفت به الرئاسة مع الدكتور خالد علم الدين حتى بدت وكأنها تريد أن تتشفى في السلفيين بفضح أحد قياداتهم دون أن تقدم دليلا على اتهاماتها باستغلال منصبه في مصالح شخصية.
وهو ما علق عليه يونس مخيون بالقول: هذه الأزمة “كشفت لنا أن هذا ليس أسلوب إدارة دولة، فلا يجب أن تدار الرئاسة بهذا الشكل العبثي”. مشيرا إلى أنه ذهب إلى “الرقابة الإدارية” مع مستشار الرئيس، محمد فؤاد جاد الله، ولم يجد أى أدلة تدين الدكتور خالد علم الدين.
وأمام هذا الوضع المتأزم بين أكبر فصيلين إسلاميين سعت أطراف إسلامية إلى وقف التصعيد من الجانبين على أمل إصلاح ذات البين. فقالت “الجماعة الإسلامية” في بيان لها: أن استمرار الأزمة “يخدم أعداء المشروع الإسلامي، وأن التيار الإسلامي كله هو الخاسر فى كل هذا وليس حزب “الحرية والعدالة” ولا حزب “النور” فقط”. داعية إلى “مصالحة عاجلة” بحل الخلافات عن طريق الحوار.
ومن جهته، ناشد الأمين العام لـ”الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح”، الدكتور محمد يسري إبراهيم: “الفضلاء جميعا باﻻمتناع عن التصريحات اﻹعلامية فورا والسعي للقاء مباشر وإجراء المصالحة والمسامحة”، موجها مناشدته “باسم مشايخ وعلماء الهيئة الشرعية”.
ثم لم تلبث أن هدأت حدة التصريحات شيئا فشيئا، فقالت “الرئاسة” في بيان لها إن قرار إقالة خالد علم الدين “يتعلق بشخصه، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بانتمائه الحزبي”. معربة عن “احترامها وتقديرها لكافة الأحزاب وما تقوم به من أدوار في إثراء الحياة السياسية المصرية وفي القلب منها حزب النور”. ثم أرادت قيادات “النور” أن تخفف من حدة انتقاداتها للإخوان، فقال الدكتور يونس مخيون أن الأزمة التي حدثت بسبب إقالة علم الدين “هي أزمة بين حزب النور ورئاسة الجمهورية وليست بين حزب النور والحرية والعدالة”. ومن جهته، نفى أحمد عارف المتحدث باسم الإخوان المسلمين، وجود صدع فى العلاقة بين الجماعتين، لافتا إلى أن كل التيارات الإسلامية قبل أن تكون ممارسة للسياسة فهى جماعات دعوية، وأحد فرائضها الأساسية أن تجمع ولا تفرق وتحشد الصف ولا تبدد.
وفي هذا التوقيت صدر بيان من النور على خلفية ما أثير من سعي جهات معارضة لتحريض الجيش بنشر أخبار تتحدث عن نية الرئيس محمد مرسي إقالة وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي وقيادات أخرى، فأصدر الحزب بيانا يدعو إلى عدم الزج بالجيش في أى صراع سياسي مشيرا إلى «خطورة إثارة الشائعات حول المؤسسة العسكرية». وفي بيانه الذي صدر في أوج الأزمة مع مؤسسة الرئاسة أثنى حزب النور على الدور التاريخي للمؤسسة العسكرية التي قامت بتسليم الحكم بعد ثورة 25 يناير، “إلى الرئيس المدني المنتخب”. كما ثمن التحرك السريع من قبل رئاسة الجمهورية لنفي «الشائعات المغرضة».
هدأت التصريحات نسبيا لكن ـ وحتى كتابة هذه السطور لم تنته الخلافات بين الإخوان والسلفيين ولا أظنها تنتهي في القريب العاجل ـ سيبقى الإخوان والسلفيون مختلفون في الرؤية والطرح السياسي وكيفية إدارة الشأن المصري فيما بعد الثورة، ولن يقصر كل طرف منهما في إثبات قدرته على المنافسة، ومدى جدارته لتولي المسؤوليات.. لكن خلافاتهم ستظل في حدودها ولن تتجاوزها إلى صراع أو اقتتال أو حتى تحالف مع المناهضين للمشروع الإسلامي. وصمام الأمان في كل ذلك نابعا من عدة أسباب، منها: وحدة المنهج الفكري والعقدي، القيم والأهداف المشتركة بين كل الإسلاميين في مصر، رأي عام إسلامي ضاغط يحرم النزاع والشقاق بين مكوناته، أيضا ما يمكن أن نسميه ب “الندية” أو توازن القوى بين الطرفين فلا الإخوان قادرون على قهر السلفيين ولا السلفيين يتمنون يوما أن يهلك الإخوان.