مقالات

الاستثمار في بنك الدم؟

الاستثمار في بنك الدم

محمد جميح

في فبراير/شباط 2011، وقبل ذلك في 2004، وقبلها في 1994، وقبلها في 1986، وقبل ذلك وذاك، بدأ الاستثمار في بنك الدم اليمني.

أحزاب سياسية، شخصات اجتماعية، قيادات عسكرية، وتجار أسلحة استثمروا كثيراً في هذا البنك، الذي يبدو أنه أصبح يمد المستثمرين فيه بنسب عالية من الأرباح والفوائد. هناك من استثمر في هذا البنك حتى وصل إلى منصب عسكري، البعض وصل إلى منصب قيادي في الحزب، آخرون وصلوا إلى وظائف عليا في البلاد، أما تجار السلاح، ومن وضعت أسماؤهم على قوائم سوداء دولية ووطنية، فقد وصلوا على ظهر موجات هذا الدم إلى مزيد من الربح، ومزيد من السلطة، في بلد يجتمع المال والسلطة والدم فيه في توأمة بشعة.

هذه أرض قل فيها المطر، فرواها أهلها بالدم، الدم ذلك الأرجواني الشهي الذي نعجن منه كل مساء موائد أحزاننا الأبدية، ونسقي به شجرة الـــكراهـــية والحقد والتعصب، والمستقبل المبني على ثارات عبس وذبيان، وأمية وهاشم.

في 2011، سكب دم كثير، ولم يصل أولياء الدم إلى تحقيق مطالبهم التي ركب عليها آخرون، كانت تجربة يمنية جديدة، عارضها من عارض، وأيدها من أيد، واعتزلها من ذهب عنها بعيداً يعض على إيمانه بنواجذ روحه.

ومع ذلك فقد تمخضت الأحداث عن شكل من الحل، اجتمع فيه اليمنيون على طاولة الحوار، ومكثوا مدة عام تقريباً، يتلاكمون بالكلمات في صنعاء إلى أن وصلنا إلى واحدة من أهم وثائق الدولة اليمنية في العصر الحديث، ووقعت عليها الأطراف السياسية، واللجان اليوم تعمل على إعداد الدستور من واقع تلك الوثيقة، وتعمل على مراجعة سجلات الناخبين، والتهيئة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، للخروج من المرحلة الانتقالية التي طالت بشكل غير مبرر، مما ولد نوعاً من التذمر والشك وتسرب الأحلام التي راودت الشارع في بدايتها.
واليوم ونحن على أعتاب المرحلة الأخيرة، يقف لنا على بوابة الخروج عبدالملك الحوثي «ليعيدها جذعة»، وليهددنا بخطوات «استراتيجية، غير مسبوقة، مزعجة، مؤلمة، مفاجئة»، وغير تلك من المصطلحات التي أشك أن مثله يفهم بعضها.

الإشكال أننا لا نتعلم، وقد قال مؤرخ فيلسوف «أعظم دروس التاريخ أننا لا نتعلم من دروسه». لو تعلمنا من درس 1994 لما جاء درس 2004، ولو ذاكرنا جيداً لما تعرضنا للامتحان مرة أخرى في 2011، ولو ركزنا قليلاً في 2011، لما دخلنا «امتحان الإعادة» في 2014.

خرج علينا «آية الله الجديد» عبدالملك الحوثي، قبل ليالٍ ليهدد الرئيس اليمني، والأحزاب السياسية، والجيش والأمن، وكل عملاء «قوى الاستكبار العالمي الأمريكي والإسرائيلي» ويتوعد كل من يقف في طريق «الثقافة القرآنية»، و«المسيرة المحمدية»، بالمواجهة الاستراتيجية المفتوحة، وعلى إثر الخطاب/الخطبة خرجت يوم الثلاثاء مجاميع من الشباب الطيبين، أصحاب مطالب مشروعة ركب على ظهرها «المقاوم في نسخته اليمنية»، وكانت المسيرة حسبما اعتقد الشباب ستنطلق في خط التظاهرات المعروف منذ عام 2011، وهو الخط الذي كان المتظاهرون يسيرون فيه بين الجامعة القديمة، والجامعة الجديدة، ثم يلتفون للعودة إلى نقطة الانطلاق، وكان متوقعاً أن ينطلق المتظاهرون ـ يوم الثلاثاء – في الشارع نفسه، ثم يعودون بعد أن يكونوا قد هتفوا ضد هادي وباسندوة وأمريكا وإسرائيل ووزير الداخلية اليمني.

غير أن المتظاهرين – وفي منتصف الطريق – سمعوا مكبرات الصوت تدعو إلى تغيير مسار التظاهر، وتطلب منهم التوجه إلى مبنى رئاسة الوزراء، وكانت تلك هي المفاجأة التي تحدث عنها عبدالملك الحوثي في خطابه الذي سجله من أحد الكهوف التي يختبئ فيها، ويريد أن يجرنا معه إليها لنعاقر معه أحلامه الخاوية في سلطة كانت لسلالته في يوم من الأيام.

انحرف خط السير في محاولة من الحوثي للسيطرة على مقر الحكومة، أو محاصرتها على الأقل، كما حاول من قبل حصار وزارتي الداخلية والاتصالات، وغيرها من الوزارات القريبة من مخيمات اعتصامه في شارع المطار، ذهب المتظاهرون إلى مقر الحكومة، طالبوا بإسقاط باسندوة، ورفع البعض صور نصر الله والخميني، وأعلام حزب الله، وكأنه من متلازمات «ثورة الحوثي» أن يسقط باسندوة مقابل أن يرتفع الخميني. ذهب المتظاهرون إلى مقرات سيادية، وزادت نسبة أرباح المضاربين في «بورصة الدم»، أو هكذا ظنوا. أقيمت «اللطميات» على ضحايا المجزرة، وهم يستحقون التكريم فعلاً، غير أن من حرض على الفتنة من كهفه في صعدة، يستحق أن يحاكم على تحريضه على كل شيء في اليمن، وقتل جماعته لعشرات آلاف اليمنيين، وهو الرابح الكبير في بنك الدم اليمني هذه المرة، ولكن بثوب التظاهر السلمي.

لا اعتراض لدي على ذهاب باسندوة، والحكومة في حكم المقالة بالفعل، غير أن مشكلتنا مع الحوثي أنه يطالب برحيل الحكومة، ويرفض تشكيل حكومة جديدة، ويرفض المشاركة فيها، ويطالب بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وهو أكبر معرقليه، بشهادة جميع اعضاء مجلس الأمن الدولي الذي سمى عبدالملك الحوثي معرقلاً لجهود التسوية السياسية في البلاد. ومشكلتنا مع الحوثي أنه يحتفظ بسلاحة بدعوى عدم وجود «دولة»، وهو الذي أضعف الدولة، وأخرج مناطق واسعة من سيادتها، ومشكلتنا مع الحوثي أنه يدعو إلى منع التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية اليمنية، وهو الذي أدخل إيران لاعباً أساسياً في اليمن، ومشكلتنا مع الحوثي أنه يطالب بإسقاط الجرعة عن المواطنين، وهو الذي جرعهم الموت والتشريد في المخيمات، وفرض عليهم إتاوات لا طاقة لهم بها، لدعم «صندوق المجاهدين»، ومشكلتنا مع الحوثي أنه يطالب بالشراكة الوطنية، وهو الذي طرد السلفيين من دماج، وأخلى قرى بأكملها من أهلها، وهو الذي شـــرد سبعمئة الف من منازلهم، ويرفض عودتهم إلى أرضهم، يطـــالب بالشراكة، وهـــو الذي فجر بيوت خصومه السياسيين، ومقـــرات حزبية لمناوئيه، بل ومساجد يعدها وكراً لعملاء «أمريكا وإسرائيل». ومشكلتنا معه أنه يستخدم عداوته للإخوان المسلمين غطاء لمحاولاته تقويض الدولة اليمنية برمتها، والسلم الاجتماعي في البلاد.

يكفي أن نعرف أن هذه الحركة الدموية ترفع الموت والقتل واللعن شعاراً لها، وتقاتل شياطين أمريكا وإسرائيل بقتل أهالي صعدة وحجة وعمران والجوف وصنعاء.

مجموعة من المتناقضات الغريبة التي على أتباعه أن يتفكروا فيها، ليعرفوا حقيقة هذه الحركة الاستثمارية الجديدة القديمة في «بورصة صنعاء» / «بورصة الدم».

وأخيراً: يضع الحوثي فوق الطاولة مطالب إسقاط الجرعة والحكومة، وتطبيق مخرجات الحوار الوطني، ويناول من تحت طاولة عبدالقادر هلال وابن دغر مطالب السيطرة على أجهزة الأمن القومي والسياسي والقضاء ومناصب عليا حول رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهذا حقه، غير أنه عندما يغلف ما تحت الطاولة بما هو فوق الطاولة، فإن ذلك ينم عن عقلية تاجر انتهازي لا يهمه سوى زيادة أرباحه في بنك جديد فتحه في صنعاء يمكن أن نسميه «البنك المركزي الدموي».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى