الثورات العربية من وجهة نظر (إسرائيلية)
الرشاد برس – مركز نماء للبحوث والدراسات
تندرج هذه الورقة ضمن الأوراق البحثية المختصة في السياسات الأمنية، وقد أصدرها مركز زيريخ للدراسات الأمنية في نونبر 2012، وهي تقدم قراءة تشريحية دقيقة لمواقف النخبة الإسرائيلية الحكومية والعسكرية والسياسية والأكاديمية من الربيع العربي والتحولات التي أعقبته والمآلات التي سيأخذها، ويبسط المخاوف الأمنية والاستراتيجية التي تعبر عنها هذه النخب لاسيما ما يرتبط بتغير استراتيجي في موازين القوى في المنطقة بشكل يؤثر على التوازنات العسكرية وعلى معادلة الرعب في المنطقة. وقد كان الحرص على تقديمها للقارئ العربي حتى يأخذ صورة عن التمثلات الإسرائيلية لما يجري في البلدان العربية وعن الأفكار التي تتداول في الداخل الإسرائيلي وعلى مختلف المستويات للتعاطي مع التحديات التي فرضتها تحولات الربيع العربي.
– نص الترجمة:
لقد كانت إسرائيل منذ البدء مرتابة أمام الاضطرابات العربية. فالغالبية العظمى من النخبة السياسية (الإسرائيلية) كانت تتوقع أن يكون لصعود الإسلاميين، وللفضاءات الجديدة للحرية التي أتيحت للراديكاليين والدور المتغير للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة انعكاساتٌ سلبية على أمن إسرائيل. تلتقي آراء (الإسرائيليين) فيما يخص الطريقة التي على البلاد التعامل بها مع جوارها الذي هو في مرحلة تحول. إن خط الفصل في السياسة الخارجية والردع العسكري عند نتنياهو يلقى مع ذلك دعما كبيرا.
لقد فوجئت (إسرائيل) هي كذلك نفسها بالاضطرابات التي هزت العالم العربي في فبراير 2011. ولكن؛ وعلى عكس العديد من الدول الأخرى؛ فإن الحكومة (الإسرائيلية) لم تتمكن منذ البدء أن تجد لها أي مكسب في “الربيع العربي”. ففي واحدة من خرجاته الأولى بعد سقوط نظام مبارك في مصر، حذر الوزير الأول بنيامين نتنياهو من أن الثورات العربية، وعلى غرار الثورة الإيرانية في 1979، قد تشجع الحركات الإسلامية والتطرف وتنتهي بهذه الدول إلى تبني سياسة معادية للغرب ومعادية لإسرائيل على الخصوص. كما أمر نتنياهو الدبلوماسية (الإسرائيلية) بأن تبين للدول الغربية مخاطر “الربيع العربي” وأن تؤكد لهم على أهمية القادة العلمانيين الذين كانوا موجودين في الحكم في الدول العربية في ضمان استقرار المنطقة. ولقد فسر رئيس الحكومة (الإسرائيلية) في شهر نونبر 2011 أمام الكنيست كيف أن توقعاته كانت صحيحة: ف»”الربيع العربي” قد تحول إلى “شتاء عربي «”.
بدون شك، يمثل نتنياهو، ضمن السياسيين الإسرائيليين، الطرف الأكثر إبداءً لارتيابه بشكل خاص تجاه الاضطرابات في الشرق الأوسط. ولقد أظهرت استطلاعات للرأي بأن أغلبية من (الإسرائيليين) اليهود يقاسمونه تشاؤمه منذ بداية الانتفاضات العربية. والرأي الذي يعتبر أن الثورات العربية ستكون لها انعكاسات سلبية على أمن (إسرائيل) منتشر بقوة. ومع ذلك ف(الإسرائيليون) ليسوا كلهم متفقين حول مسألة معرفة كيف يجب على البلد أن يتعامل مع التحولات العميقة في جواره.
تقييم سلبي للوضع
إن أول ما يثير الانتباه في النقاش (الإسرائيلي) الداخلي حول “الربيع العربي” هو كون العديد من التحاليل والتعاليق تلاحظ تدهورا للوضع الأمني لإسرائيل. حسب هذه التحاليل والتعاليق، فإن موازين القوى في المنطقة قد تحولت بشكل كبير لمصلحة إسرائيل خلال العقود الأخيرة. وبما أن العديد من الحكام العرب لمرحلة ما بعد استقلال الدول العربية، كانوا يأملون في نسج علاقات جيدة مع الغرب؛ فإنهم كذلك كيفوا تدريجيا سياستهم تجاه (إسرائيل). وهكذا؛ بعد أن أبانت الحربان في 1967 و في 1973 أن النزاع مع (إسرائيل) لا يمكن حله عسكريا، فإن العديد من هؤلاء الحكام قد تأقلموا شيئا فشيئا مع وجود (إسرائيل) وقبلوا بها.
صحيح أن الغالبية العظمى من الدول العربية قد تراجعت عن العلاقات الدبلوماسية بسبب القضية الفلسطينية. غير أن (إسرائيل) مع ذلك قد تمكنت من عقد اتفاقيات سلام مع جارتيها مصر والأردن. ورغم أن السلم قد بقي سلما باردا؛ خصوصا مع مصر؛ إلا أن مصر قد أصبحت إلى حد ما شريكا موثوقا بالنسبة ل(إسرائيل). فعلى أساس معاهدة كامب ديفد؛ فإن مبارك لم يبد فقط تعاونا دفاعيا وثيقا مع الولايات المتحدة الأمريكية ولكن كذلك تعاونا أمنيا مع (إسرائيل) في الوقت الذي كان يقمع فيه الإخوان المسلمين داخل بلده.
صحيح أن العلاقة مع سوريا؛ الجار الكبير الآخر ل(إسرائيل)؛ ظلت أكثر صعوبة؛ إذ لم يتم أبدا التوصل إلى سحب للقوات (الإسرائيلية) من مرتفعات الجولان؛ غير أن سوريا مع ذلك قد التزمت بشكل واسع باتفاقية فك الاشتباك (الإسرائيلية) – السورية لسنة 1974؛ وذلك في عهد كل من الأسد الأب والإبن. واستمرت سوريا من وجهة نظر (إسرائيلية) عدوا يمكن الاعتماد عليه.
ولقد بدا جوار (إسرائيل) في المجمل مستقرا بشكل ملحوظ جدا منذ أواخر سنوات السبعينات، بحكم أن البلد لم يدخل في أي حرب كبرى مع أي دولة. غير أن نزاعات مسلحة مع فاعلين آخرين غير الدول؛ مثل منظمة التحرير الفلسطينية في سنوات الثمانينات، ثم مؤخرا مع حزب الله وحماس؛ قد أثبتت مع ذلك أن (إسرائيل) هي أبعد بكثير من سلم دائم ومن اندماج حقيقي في المنطقة. ولقد ظلت أطراف مهمة من النخب السياسية والعسكرية مع ذلك متفقة خلال السنوات الأخيرة على إمكانية الحفاظ على المصالح المركزية للدولة في مواجهة الخصوم العرب عن طريق تدبير للنزاعات يتمحور على أساس الردع العسكري والعقوبات الانتقامية. غير أن السياق الاستراتيجي؛ مع الانتفاضات في العالم العربي، قد أصبح غير مأمون العواقب بالنسبة ل(إسرائيل)، وأقل أمنا بالنسبة لأغلب (الإسرائيليين). ويمكن في النقاشات ذات الصلة تحديد ثلاثة مجالات للمواضيع التي تشغل (الإسرائيليين) بشكل خاص: التبعات السلبية لدَمَقرطة غير تامة، وفضاءات الحرية الجديدة أمام الإرهابيين، والتحولات الجيو- سياسية في الشرق الوسط.
إن الارتياب فيما يخص مسلسل الديمقرطة الجديد في دول الجوار له أهمية قصوى في (إسرائيل). يتم مثلا طرح استدلال مفاده أن التعبئات الجماهيرية في مجتمعات لا تتوفر إلا على تجربة ديمقراطية ضعيفة يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير ديمقراطية. وأصحاب هذا الطرح يقدمون مصر كمثال صارخ على ذلك؛ حيث تمكنت تيارات إسلامية شعبوية غير ديمقراطية أن تفوز بالانتخابات بفضل مطالبها المناهضة للنخب. والتطمينات المتكررة للرئيس محمد مرسي وللإخوان المسلمين التي تؤكد أن مصر سوف تحترم مبادئ الديمقراطية وتحترم تعهداتها الدولية؛ هي في أعين العديد من (الإسرائيليين) غير ذات مصداقية. وعلى الرغم من استطلاعات الرأي تظهر بأن أقلية فقط تعتقد بأن القاهرة سوف تلغي معاهدة السلام مع (إسرائيل)؛ فإن أغلبية (الإسرائيليين) اليهود يتوقعون أن تتدهور العلاقات الثنائية. وإضافة إلى ذلك؛ يحذر بعض المعلقين من أن الضغط الشعبي في أفق إنهاء معاهدة السلام يمكن أن يتصاعد على المدى المتوسط في مصر. وتعود مخاوفهم بالخصوص إلى كون حزمة المساعدات السنوية الأمريكية لمصر التي تتعلق بمعاهدة السلام تتمركز أساسا على أهداف دفاعية ولا تساهم إطلاقا في تحسين أوضاع الساكنة (في سنة 2012 كانت 1،31 مليار دولار من أصل مجموع الحزمة البالغ 1،56 مليار دولار؛ مخصصة من البداية لأن تشتري بها مصر أسلحة دفاعية من شركات أمريكية). وهناك أيضا مخاوف من أن يتبنى القادة الجدد لدول الجوار خطا معاديا بالكامل ل(إسرائيل) بهدف تكريس المصالحة في السياسة الداخلية وإخفاء ضعف الأنظمة العربية لما بعد الثورات. وهناك كذلك من يتمسكون بذكر المخاطر الأمنية المترتبة عن مسار تحولات لا يمكن السيطرة عليها في دول الجوار. وكذلك، فإن احتمال وقوع تجهيزات عسكرية جد قوية بين أيدي فاعلين خارج الدول التي ضعفت سلطاتها المركزية مثل ما وقع في ليبيا أو حاليا في سوريا يبقى كذلك عاملا مقلقا جدا. وأسوأ هذه الأحوال هو أن تسقط الأسلحة الكيماوية السورية في أيدي حزب الله في لبنان.
وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن الانشغال الأكبر الثاني ل(الإسرائيليين) فيما يتعلق بالاضطرابات العربية؛ أي فضاءات الحرية المتصاعدة أمام إرهابيي المنطقة. فهناك بالفعل الكثير مما يدل على أن مناطق جديدة “خارجة عن السيادة” في كل من ليبيا وسوريا أصبحت معسكرات انسحاب وتجنيد، وفضاءات عمليات للقاعدة ولجماعات جهادية أخرى. ويمكن كذلك أن نلاحظ تجددا متصاعدا للأنشطة الإرهابية في شبه جزيرة سيناء التي تشكل من جهتها قاعدة ومركزا لانطلاق تهريب الأسلحة نحو غزة. والهجوم على مركز عسكري مصري في غشت 2012 يعتبر مؤشرا على أن العنف يمكن أن يتضاعف في شبه جزيرة سيناء. وإذا ما صعدت مصر من تواجدها العسكري على المدى الطويل في سيناء بدون موافقة (إسرائيل)؛ فإن ذلك سيكون معاكسا لمقتضيات معاهدة السلام، وهذا يمكن أن يؤدي إلى توثرات بين البلدين. وثالثا؛ فإن موازين القوى في المنطقة تتغير هي الأخرى؛ في غير مصلحة (إسرائيل). فهناك أولا تراجع إمكانيات تأثير الولايات المتحدة الأمريكية. صحيح أن الاستدلال الذي يرى أن الانتفاضات في العالم العربي يعكس اندحار الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة ربما لا يكون في محله؛ غير أنه مع ذلك فإن سقوط دكتاتوريات موالية لأمريكا سوف يدفع واشنطن إلى اتباع سياسة أجنبية أكثر اختلافا في الشرق الأوسط. وإذا ما تصرفت الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل بأسلوب أقل موالاة ل(إسرائيل)؛ فإن هذا سوف تكون له انعكاسات سلبية على القدرات الردعية (الإسرائيلية).
وفي رأي العديد من (الإسرائيليين) فإن صعود إيران وتركيا من الممكن أن يتسارع أكثر؛ وذلك بسبب الضعف الحاد للعديد من الدول العربية. وبالفعل؛ فالنزاع حول البرنامج النووي الإيراني يهيمن حاليا على النقاشات الأمنية أكثر من أي موضوع آخر في (إسرائيل).
وفيما يخص سوريا؛ ليس في الإمكان الآن إلا التعاطي مع فرضيات فيما يتعلق بالانعكاسات التي قد تكون للتطورات في هذا البلد على موازين القوى في المنطقة. فسقوط الأسد قد يحد بالتأكيد من وثيرة صعود إيران، وقد يضعف من موقع حزب الله ووضعه. ولقد استبقت حماس من جهتها التخلي عن الأسد، وهي تجد نفسها منحصرة في إعادة توجيه لإستراتيجيتها. ولكن (إسرائيل) تتخوف كذلك من انتشار عدم الاستقرار السوري إلى دول ظلت إلى الآن مستقرة نسبيا؛ مثل العربية السعودية والأردن. ف “ربيع عربي في الرياض” قد يضعف إلى حد كبير التحالف المعادي لإيران في المنطقة. واضطرابات داخلية في الأردن يمكن أن تمنح للقضية الفلسطينية آنية واستعجالية جديدة.
خط الفصل
مهما كان الارتياب منتشرا في (إسرائيل) فيما يتعلق بالثورات العربية: في مسألة معرفة كيف يجب على (إسرائيل) أن تتعامل مع التحولات في جوارها؛ فإن آراء (الإسرائيليين) تتوافق؛ غير أنه يملاحظة وجود هوة بين ممثلي الوسط واليمين من جهة، واليسار (الإسرائيلي) من جهة أخرى. فالطرف الأول يؤكد بالخصوص على التهديدات القادمة من الثورات العربية بالنسبة ل(إسرائيل)، ويدعو إلى سياسة للفصل (Selbstabschottung) والتسليح العسكري. وأما ممثلو اليسار؛ فصحيح أنهم لا ينفون هذه التهديدات؛ ولكنهم يثيرون الانتباه إلى الحظوظ الجديدة التي قد تتوفر إذا تم الانخراط في خط للتعاون البناء مع الجيران العرب. وفي الوقت الذي تجد فيه وجهة النظر هذه ترحيبا لدى الأوساط الأكاديمية والمثقفين، فإن أغلب أعضاء حكومة نتانياهو، كما جهات هامة في المؤسسة السياسية، يميلون على العموم إلى استراتيجية الفصل؛ وهو ما يعكس من جديد التراجع المتواصل منذ سنوات للحزب العمالي الذي كان قويا من قبل. والعديد من ممثلي معسكر الفصل والمواجهة ينتقدون دور الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية أخرى فيما يخص “الربيع العربي”، وعلى الخصوص التخلي عن مبارك في سياق الثورة المصرية. فبوقوفها موقفا داعما للحركة الاحتجاجية المصرية؛ – هذه على الأقل هي الذريعة التي يحتجون بها- تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد فقدت مصداقيتها في المنطقة وفقدت ثقة حلفائها. ففي رأيهم فإن الاعتقاد الساذج في إمكانية إحداث دَمَقرطة في الشرق الأوسط قد مهد الطريق إلى السلطة أمام الجماعات الإسلامية المنظمة جيدا، وفتح الأبواب مشرعة أمام الإرهاب. وكذلك بالنسبة لهم فإن تفسير “الربيع العربي” كمؤشر على اندحار القاعدة قد اتضح أنه هو الآخر تفسير ساذج.
والمثير لبالغ الدهشة أن العديد من ممثلي هذا المعسكر لا يرون أي تمايز أو فرق على الإطلاق بين المجموعات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة، ولا يقومون بأي جهد إلا لماما، وأمام العموم على كل حال؛ للقيام بتحليل يميز بين التهديدات. وبنعت جميع التهديدات بأنها تهديدات وجودية، وبعدم الأخذ في الاعتبار أي إمكانية لتراجع التهديدات عن طريق سياسة (إسرائيلية) بناءة وشاملة؛ فإن استراتيجية الفصل والمواجهة التي يِضمنها الجيش أصبحت في مركز النقاشات الاستراتيجية.
إن الموقف الذي يعتبر أن (إسرائيل) هي المسئول الوحيد عن أمن واستمرار الدولة، وأنه عليها أن تعطي الأولوية للقوى العسكرية؛ هو موقف راسخ متجذر دائما لدى النخب السياسية والإستراتيجية للبلد. إن العديد من ممثلي معسكر الفصل والمواجهة يشكون أساسا في وجود أي رغبة في السلم لدى الدول العربية، ويدفعون إلى سياسة أمنية تتجه نحو أسوء الاحتمالات. وهذه الجماعة تطالب منطقيا بتقوية قدرات الردع (الإسرائيلية). فبالنسبة لهم، فإن نفقات الدفاع يجب رفعها ونظم الدافع المضادة للصواريخ يجب نشرها. والتفكير في الطريقة التي يمكن بها الحفاظ على المدى الطويل بالولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب (إسرائيل) هو كذلك جزء من طريقة التفكير هذه. ونتنياهو أبعد من أن يكون هو الممثل الوحيد لهذا المعسكر الذي يبالغ كذلك من وقت لآخر في التخويف من التهديدات أمام (إسرائيل)؛ لأنه يريد التأكد من دعم الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك على الرغم من كل الانتقادات (الإسرائيلية) لإدارة أوباما. و فيهذا السياق على الخصوص، يعلقون في هذا المعسكر أهمية قصوى على معاهدة (إسرائيلية)-أمريكية فيما يخص السياسة الواجب اتخاذها تجاه إيران. بحيث إذا ما اختارت (إسرائيل) التدخل العسكري، فإن عملا مشتركا سوف تكون له أهمية كبرى؛ ليس فقط من وجهة نظر العمل العسكري؛ ولكن كذلك من وجهة نظر سياسية و إستراتيجية؛ مما سيكون له أثر إرسال إشارة بليغة تجاه المحيط الإقليمي. وأما فيما يخص القضية الفلسطينية؛ فإن هذه الجماعة تمثل الموقف المعروف جيدا لدى الجميع؛ والذي يعتبر أن أزمنة الريبة والشك هاته ليست وقتا مناسبا لحل النزاع أو لتقديم تنازلات من طرف (إسرائيل). وأبدا لا يمكن وسط هذا المعسكر سماع أي انتقادات فيما يخص توسع أنشطة الاستيطان (الإسرائيلية) في الضفة الغربية. بل هناك من وقت لآخر تعبير عن الجحود أمام إيلاء كل هذا الاهتمام دوليا للقضية الفلسطينية، وأمام كون (إسرائيل) توضع دائما موضع الإدانة في وقت يعامِل الطغاة العرب شعوبهم معاملة أكثر ظلما وقسوة، كما هو حال الأسد؛ بل إنهم حتى يُذَبِّحونهم ويُخضعونهم لمجازر حقيقية.
مزيد من الالتزام
قد يكون المعسكر الذي يؤكد داخل النقاشات (الإسرائيلية) حول الثورات العربية على الحظوظ التي قد تحملها هذه التطورات لصالح (إسرائيل)؛ هو الأقل تمثيلية داخل المؤسسات السياسية الرسمية. غير أنه يضم مع ذلك أكاديميين بارزين ومثقفين يشكلون جزءً مهما من النخب (الإسرائيلية). وهذا ما يجعل أن الأمر لا يتعلق بمجموعة مهمشة، حتى وإن كان يبدو أنه يحظى بترحيب أكثر على المستوى الدولي منه في (إسرائيل). هذه الجماعة تدعو إلى أن تنخرط (إسرائيل) بفعالية – وذلك على الرغم من جميع التطورات الطارئة الحالية – في صالح تحسين العلاقات مع الدول العربية وأن تراهن على سياسة ملتزمة ومنفتحة عوض سياسة الانسحاب والعزلة. وفي هذا الصدد هم يجادلون أيضا في صالح إلقاء نظرة تمييزية على التحولات في العالم العربي. فكما يؤكدون؛ فإن السياقات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية للثورات العربية تختلف من بلد إلى آخر. وعلى هذا الأساس فالتعاطي (الإسرائيلي) مع هذه الثورات يجب تبعا لذلك أن يكون متنوعا ودقيقا حسب كل بلد على حدة. يجب على الخصوص استطلاع إمكانيات القيام بإجراءات ومبادرات إيجابية من طرف (إسرائيل). إن الجهد الواجب بذله في أفق تحسين الصورة السيئة ل(إسرائيل) في الدول العربية وعلى الخصوص لدى شعوب هذه الدول؛ يوضع هنا في المستوى الأول من الأولويات. وأغلب ممثلي هذا المعسكر لا يذهبون بفكرهم في هذا نحو دعم سياسي أو عسكري لمختلف الفاعلين في الانتفاضات بقدر ما يفكرون في نوع من الانخراط الموضوعي يتخذ مثلا شكل مساعدة إنسانية للتقليل من آثار الفقر والعوز. إنهم واعون جيدا بأن عروضا مثل هذه لن تحضى بالقبول في كل مكان حتى وإن اتخذت الحكومة (الإسرائيلية) هذا الاتجاه.
وهذا “مارك آ. هيلر” من “المعهد (الإسرائيلي) للدراسات من أجل الأمن الوطني” المعروف بدعوته إلى دور أكثر فاعلية ل(إسرائيل) في هذه التحولات يعترف بأن إمكانيات تأثير (إسرائيل) في سياق الثورات العربية هي جد قاصرة؛ ولكنه مع ذلك يدعو إلى استغلال الهوامش الصغيرة للمناورة المتاحة بمنهاجية أكبر. ويقترح السيد “هيلر” بوضوح سلسلة من الإجراءات من شأنها أن يكون لها مفعول “ربيع” للسياسة الخارجية والدفاعية (الإسرائيلية). ومن بين هذه الإجراءات نجد مثلا مساعدة اقتصادية للأردن، وخصوصا للتقليل من أثر النقص في الماء وفي المحروقات. وهذه المساعدة سوف تؤدي في نفس الوقت ولا شك إلى ضمان استقرار النظام الأردني وإلى تهيئ الظروف الضرورية التي سوف تدفع الملك عبد الله إلى القيام بالإصلاحات السياسية التي وعد بها.
وعلى (إسرائيل) في رأيه كذلك أن تبحث في إمكانية فتح قنوات اتصال مع الإسلاميين ومع القوى الجديدة الأخرى في المنطقة. ويقترح “هيلر” كذلك أن تعبر (إسرائيل) عن تجاوب بناء مع مبادرة السلام العربية لسنة 2002؛ التي بمقتضاها يمنح العرب تطبيعا للعلاقات مقابل أن تنسحب (إسرائيل) من الأراضي الفلسطينية إلى حدود 1967، وأن تقبل بقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. ويرى كذلك أن جهودا أخرى جديدة في أفق حل المشكل الفلسطيني تبقى في نظره ضرورية لتحسين صورة البلاد “الملطخة” في المنطقة. ولقد ظل العديد من قادة اليسار (الإسرائيلي) يطرحون منذ زمن طويل أن مفتاح تحسين العلاقات مع الدول العربية الجارة يوجد في سياسة (إسرائيل) تجاه الفلسطينيين. فالعديد منهم قد حذروا خلال السنوات الأخيرة بأن مقترح حل الدولتين قد يصبح عما قريب متجاوزا. والبعض منهم يلوحون حاليا مع مزيد من الحدة والإلحاح إلى أن سياق التغييرات، والحكومة المصرية الجديدة، يمكن في الحقيقة أن يمثلا فرصة أمام مسلسل السلام. ولقد كان وزير الدفاع السابق “عمير بيريتس” مثلا قد عبر في غشت 2012 عن رأي مفاده أن الإخوان المسلمين يتوفرون على أهلية أكبر لدفع حماس إلى القبول بمعاهدة سلام مع (إسرائيل) موقعة من طرف الرئيس محمود عباس. إنه بدعوته إلى مفاوضات سلام جديدة قد تقدم بموقف وجد ترحيبا كبيرا؛ خصوصا في العواصم الغربية.
إن أقل من ثلث (الإسرائيليين) اليهود يعتقدون مع ذلك اليوم بأن معاهدة سلام مع الفلسطينيين سوف ترى النور في السنوات القليلة القادمة.