مقالات

العجوز والعدالة واليمن المفقودة

 الفاتكي

عبدالواسع الفاتكي

رأيتها تحدق في المارة، وتستوقف الذكور في سن الشباب والرجولة،  فاقتربت منها،  وأدخلت يدي في جيبي،  خيل لي أنها متسولة،  لكنها بادرت بالقول: عجوزا لا ولد لها ولا بنت، وزوجها طاعن في السن،  جار عليها أخوها، فسلبها الأرض والدار، وأشياءها الثمينة على مسمع ومرأى من الأهل والجيران وذوي الجاه والسلطان،  وأردفت قائلة : أبحث عمن يعيد لي حقي، ويرفع عني ظلم ابن أبي وأمي .

 

 وسرعان ما رد عليها شاب : يا أماه تبحثين عن عدالة في وطن مفقود، حين يعود،  ستأتي باحثة عنك،  تعطيك حقك، وتمنع حيفك، وأطرقت العجوز هنيهة، وعينيها تغرورقان بالدمع، وشخصت ببصرها نحو السماء ؛ شاكية لربها قلة حيلتها،  وضعف قوتها وهوانها على الناس .

 

وقتئذ تزاحمت في ذهني أسئلة كثيرة فما الذي بقي لدى هذه العجوز لتشعر بانتمائها لليمن ؟ وهل مازالت صورة الوطن في صغرها هي ذاتها في كبرها ؟ وهل عيشها في يمن حكامها سلبوا خيراتها وصادروا حقوق أهلها تجعلنا نسميها وطنا ؟ لم يعد الوطن بالنسبة لها مأوى،  حيث لا تعوزها الراحة والوقاية من عناصر الطبيعة، وشرور البشر من الحر،  والبرد،  والمطر، والفقر، والجور، والجهل، والمرض، وحيث يحتضن ثلاجة ممتلئة بأيس كريمها المفضل،  تجتمع فيه مع الأهل والأصدقاء، تجلب لهم، ويجلبون لها الود، وقطع الشيكولاته،  لقد كان الوطن لديها،  حين كانت طفلة أغنية رددتها لها أمها ؛ كي تنام على فراش وثير،  في بيت كبير، من يقطن فيه يغمرهم الوئام،  وأقل إيماءة منها لديهم مفهومة.

 

  لكن معاني الوطن الجميلة تبددت، وصوره الذهنية المثالية تبدلت ؛ ليتحول وطنها لحيز من أربعة جدران،  لقيت فيه من الإهانة، والإساءة،  والكراهية بلا سبب،  على أيدي من انتظرت منهم الرعاية والحماية، لمكان تختزن فيه الكنوز ؛ ليتعاقب على سرقتها اللصوص،  لا تنتهي حروبه،  ونزاعاته،  ولا تشعر فيه بالأمان مطلقا، لعقار يباع ويشترى بالتقسيط المريح،  لمجرد جغرافيا لا معنى لها، فأصبحت هويتها الوطنية بطاقة كرتونية، تحمل شعار وطن،  ليس له وجود سوى في قصور وأرصدة النهابة النهاشة،  الذين إن اتفقوا سرقونا،  وإن اختلفوا اقتلوا بنا،  مما جعل اليمنيين في نضال دائم؛ لينالوا حقوقهم المسلوبة، فكانت ثورة فبراير عام 2011م مرحلة مهمة من تاريخهم المعاصر، على طريق استرداد وطنهم،  بيد أن الأعداء في الداخل والخارج،  أجهزوا عليها بانقلاب حوثعفاشي في 21 سبتمبر 2014م ؛ ليستمر اليمنييون في مسيرة الكفاح دافعين ثمنه دما،  وجوعا،  وألما،  ولن يهدأ لهم بال،  حتى يستقروا على وطن،  يستظل برايته،  وينعم بخيراته كل اليمنيين .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى