الفصل بين السلطات “رؤية إسلامية”
السنوسي محمد السنوسي
يطرح مبدأ «الفصل بين السلطات» نفسه كأحد أهم المبادئ التي يقوم عليها نظام الديمقراطية؛ وقد ذكرنا في مقال سابق (الشورى والديمقراطية.. وسؤال المقارنة الصحيح) أن الطريقة المثلى للتعامل مع المفاهيم والنظريات هي ألا نتعامل معها باعتبارها كُتلاً مُصمتة، غير قابلة للتحليل إلى مواد أولية؛ بل نتناول مفرداتها واحدة تلو الأخرى؛ لبيان ما يتفق منها وما يخالف قيمنا ومبادئنا؛ بحيث نستفيد مما عند الآخرين من خير.
وهذا المقال مَعْنيٌّ بمناقشة مدى موافقة أو مخالفة «نظام الفصل بين السلطات» للمبادئ والمفاهيم التي أرساها الإسلام في الحكم والسياسة.
ونشير بداية إلى أنه مع تعدد وظائف الدولة الحديثة واختصاصاتها، واتساع نشاطها الذي يشمل مختلف المجالات، أصبح من العسير إبقاء مظاهر السلطة في يد حاكم واحد؛ بل تم توزيع هذه الوظائف والأنشطة على أجهزة وهيئات مختلفة ومتعددة؛ لتتولى كل منها ممارسة اختصاص مميز عن غيره للقيام بالوظائف الأساسية داخل الدولة؛ وهي وظائف التشريع والتنفيذ والقضاء[1].
وإذا كان الفكر السياسي منذ أرسطو يميز بين عدة وظائف داخل الدولة، فإن مبدأ «الفصل بين السلطات» يذهب إلى أبعد من مجرد التمييز بين سلطات الدولة أو توزيع السلطات؛ وهو مبدأ لم يظهر في الفكر السياسي إلا على يد جون لوك عام 1690م[2]، ثم أوضحه مونتسكيو ببراعة في مؤلفه «روح القوانين» الذي صدر عام 1748م. وقد سيطر هذا المبدأ منذ منتصف القرن الثامن عشر على التاريخ الدستوري في الولايات المتحدة، وفرنسا منذ الثورة عام 1789م، كما كان مؤثرًا على النظم السياسية في البلاد الأوربية كافة[3].
ونقطة البداية عند مونتسكيو هي أن وظائف الدولة الأساسية ثلاث: تشريعية، وتنفيذية، وقضائية. ويتعين لضمان الحرية إعمال مبدأ «الفصل بين السلطات»؛ وعلة ذلك في رأي مونتسكيو أن «كل إنسان يمسك بالسلطة يميل إلى إساءة استعمالها، ولا يتوقف إلا عندما يجد أمامه حدودًا»، و«لمنع إساءة استعمال السلطة يجب ترتيب الأمور بحيث توقف السلطة السلطة»[4].
والملاحظ أنه إذا كان «الفصل بين السلطات» قد بات مستقرًا – من حيث المبدأ – في الفكر السياسي الحديث، فإن التطبيق العملي لهذا المبدأ على مستوى الحكم الواقعي قد أثبت استحالة الفصل المطلق بين السلطات الثلاث؛ مما جعل من المبرر واقعيًّا حدوث تداخلات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أما السلطة القضائية فقد بقيت مستقلة نسبيًّا باعتراف جميع أنظمة الحكم والدول الديمقراطية؛ ضمانًا لنزاهتها وعدالتها. ولذا فإن نظم الحكم تختلف باختلاف سيادة أو موازنة السلطتين التشريعية والتنفيذية[5].
وقد أدى اختلاف طبيعة العلاقات بين هاتين السلطتين إلى توالد أنظمة مختلفة، أولها النظام البرلماني ونموذجه إنجلترا، وثانيها النظام الرئاسي ونموذجه الولايات المتحدة الأمريكية، وثالثها نظام حكومة الجمعية ونموذجه سويسرا، ورابعها النظام شبه الرئاسي ونموذجه فرنسا المعاصرة[6].
د. وائل حلاق ونقد مبدأ «الفصل»:
وجّه د. وائل حلاق – الباحث الكندي من أصل فلسطيني – في كتابه الأخير الذي أحدث جدلاً واسعًا، نقدًا لاذعًا لمبدأ أو نظرية الفصل بين السلطات كما تعرفها النظم الديمقراطية الحديثة، ورأى أنها «نظرية غير متماسكة»؛ لأنها بحسب قوله: «بمنحها كثيرًا من السلطات إلى السلطة التنفيذية، عداك عن السلطة القضائية، إنما تعزز ما يناقض نيتها المعلنة: إذ تؤدي إلى تركيز قدر كبير من السلطة في يد السلطة التنفيذية»[7].
بل نقل حلاق – موافقًا – عن هانز كلسن قوله: «إن مبدأ الفصل بين السلطات كما يُفهَم حرفيًّا، أو كما يُفسَّر كمبدأ لتقاسم السلطات، ليس ديمقراطيًّا في جوهره»[8].
وأشار حلاق إلى أن «الفصل بين السلطات» قد آل في الدول الغربية إلى نوع من الامتزاج شبه التام بين السلطات الثلاث، أو «دُمر تقريبًا»، خاصة في النظام الأمريكي الذي يُسوَّق – كما يقول – باعتباره «مثالاً يحتذى للديمقراطية»[9].
لكن يعود حلاق فيمدح هذا المبدأ كما عرفته التجربة الإسلامية في الحكم، من خلال ضبطها العلاقةَ بين الحكام، والقضاة، والفقهاء أو المفتين – الذين يمثلون السلطات الثلاث – وخضوع جميع هؤلاء للشريعة باعتبارها «ممثلةً لإرادة الله السيادية، وتنظم مجال النظام الإنساني بأكمله»[10]. وينتهي إلى أنه قد «شكل مفهومُ سيادة الله في الإسلام نموذجًا خاصًّا من نماذج الفصل بين السلطات»[11].
على أنّ من المهم التأكيد أن نقد وائل حلاق أو غيره لهذا المبدأ الديمقراطي – الفصل بين السلطات – إنما يندرج ضمن نقده بصورة أعم للدولة الحديثة برمتها، وبمختلف تفريعاتها.
ويشر أحد الباحثين إلى أن حلاقًا قد تأثر في نقده للفصل بين السلطات بالنقد الكاثوليكي للدولة الحديثة، وهو النقد الذي لم يكن جديدًا، حتى إن واحدًا مثل «جون هاورد يادر/ John Howard Yoder» كان يسخر من الدستور الأمريكي وإعلان الاستقلال ويقف عند نقطة «الحقوق البديهية أو التي لا تحتاج لدليل»، ليقول إن البدهيات التي لا تحتاج لدليل فكرة إيمانية مسيحية لأنها تقوم على أن الأشياء التي يجب الإيمان بها لا تحتاج لدليل. وكان «يادر» يضحك من فكرة الانتخابات ودور الأغلبية ليقول إن الأغلبية لا يمكن يومًا ما أن تكون طريق معرفة «الحق» أو «الباطل».
ويضيف الباحث: لكن بعد أجيال، ظهر في أمريكا مَن يسمون بالتقليديين الجدد وكان من أبرزهم «ألسادير ماكنتاير/Alasdair MacIntyre» و«ستانيلي هاورواس/ Stanley Hauerwas» الذين قدّموا نقدًا غير مسبوق للمؤسسات الحداثية والدولة الحديثة، وكان أهم عنصرٍ في هذا النقد هو الفقر أو حتى الفراغ الأخلاقي الذي تقوم عليه الدولة الحديثة. فحلّاق بكل وضوح يقول إن المسلمين يحملون تاريخًا للحكم والقيادة والتفاعل السياسي أكثر أخلاقية وأقرب للنموذج المنطقي المتكامل والمنسجم مع قيمه من أي نموذج آخر، سواء كان حداثيًّا أو تراثيًّا يونانيًّا أو غير ذلك[12].
وبغض النظر عن صواب أو خطأ نقد وائل حلاق لمبدأ «الفصل بين السلطات»، فإننا يجب أن نفرق بين النظرية والتطبيق؛ فإساءة الفعل لا ينبغي أن ترتد على أصل المبدأ بالسلب، خاصة أن حلاقًا أثنى على ما اعتبره فصلاً في التجربة الإسلامية؛ أي أنه لا يعارض الفصل من حيث المبدأ، وإنما ينتقد التطبيق[13].
ومع هذا، فلستُ مَعْنِيًّا في هذا المقام بالدفاع عن «الفصل بين السلطات» كأحد المبادئ الأساسية للديمقراطية، وإنما يهمني أن أستوضح حقيقة موافقة أو مخالفة هذا المبدأ لنظام الحكم الإسلامي.. لأننا إذا كنا نعترف بوجاهة الانتقادات الموجَّهة للديمقراطية ككل، فليس من المنطقي ألا نأخذ الانتقادات الموجهة لأحد مبادئها بعين الاعتبار.
الإسلام ومبدأ «الفصل بين السلطات»:
لا شك – كما أشرنا بإيجاز – في أن لمبدأ «الفصل بين السلطات» دورًا كبيرًا في الحد من تغول إحدى سلطات الدولة، ومن ثم في إحداث التوازن بينها، وتوفير مناخ الحرية، ومنع الاستبداد؛ إذ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة؛ كما تدل تجارب التاريخ.
والسؤال: ما موقف الإسلام من هذا المبدأ المهم، الذي يمثل ركيزة أساسية للنظام الديمقراطي؟
انقسم الباحثون في الإجابة عن هذا السؤال إلى اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول: يرى أن النظام السياسي الإسلامي لم يعرف الفصل بين السلطات بالمعنى الذي عرفته الديمقراطية وطبقته بدرجات متفاوتة[14].
ويشرح أنصار هذا الاتجاه رأيهم بأن النظام السياسي الإسلامي اشتمل على السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكانت هذه السلطات مجتمعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الجمع لم يكن فيه أي خطر؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، لا يَصدر في أقواله وأفعاله عن هوى. ثم لما تولى أبو بكر قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال، وقال عمر: وأنا أكفيك القضاء؛ فتوزعت الأعمال على رجال مختلفين، لكن هذا التوزيع كان على أساس ازدحامها وكثرتها، وليس الاحتراز من مفاسد الاجتماع. وفي عهد عمر اتسع العمل بمبدأ الفصل بين السلطات حتى إن عمر عمد إلى الفصل بين أنواع الولايات بتعيين ولاة متخصصين في كل إقليم من الأقاليم. وعلى هذا المنوال سارت الدولتان الأموية والعباسية؛ لكنه كان فصلاً غرضه توزيع الأعمال لا الاحتراز من الاستبداد[15].
ويوضح د. نعمان السامرائي أنه بالنسبة لـ«سلطة التشريع» فقد كانت لله ولرسوله؛ وبعد انتقاله صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى، حل مكانه الخلفاء الراشدون، ولكن دون أن يكون لهم حق التشريع[16]. وراح العلماء والفقهاء يجتهدون ويُعْملون فكرهم ويستنبطون الأحكام من النصوص الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله ومن الإجماع والقياس والعرف وباقي المصادر المعروفة. وصار للحاكم حق «التنظيم».
أما بالنسبة لـ«سلطة القضاء» فقد كانت مستقلة ومتميزة؛ فكان الخليفة يعين الولاة ويعين إلى جانبهم القضاة، فلم يكونوا تابعين للولاة بل للخليفة مباشرة، مع مراعاة أن تبعيتهم للخليفة كانت من حيث الشكل فحسب؛ أما من حيث المضمون فلم يكن لأحد سلطان على القضاة. ولذلك سجل التاريخ أن الخلفاء كانوا يحضرون بأنفسهم مجلس قضاء حين يكونون طرفًا في الدعوى؛ وأولهم علي بن أبي طالب حين ادعى رضي الله عنه ملكية درع كان مع يهودي، فحضر القضاء مدعيًّا من أجل أخذه، وحين استشهد على ملكيته بابنه الحسن رفض القاضي قبول شهادة الحسن لوالده، وخسر الإمام عليٌّ الدعوى نظرًا لعدم وجود بينة تشهد له.
ويخلص السامرائي إلى أن الإسلام لا يوجد فيه ما يوجب الفصل بين السلطات، أو يمنع منه؛ وتبقى القضية في حدود المصلحة[17].
أما الاتجاه الثاني: فيرى أن نظام الحكم الإسلامي قد عرف «الفصل بين السلطات» إلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فقد اجتمعت لهم رئاسة السلطات الثلاث، على تفصيل في هذا الأمر. ومن أبرز القائلين بذلك الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله.
فيذكر المودودي أنه بالرغم من أن العلاقة بين أركان الدولة الثلاثة – السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية – ليست لها أحكام صريحة في ما جاءنا من الشريعة؛ فإننا إذا تتبعنا ما كان عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، تجلت لنا المسألة وعلمنا أنه من حيث الرئاسة لا يكون رئيسًا لهذه الشُّعب الثلاث إلا رئيس الدولة نفسه، وعلى ذلك كانت الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الخلفاء الراشدين من بعده.
لكن المودودي يعود فيوضح أننا إذا صرفنا النظر عن شخص رئيس الدولة، وجدنا هذه الشعب الثلاث مختلفة بعضها عن بعض:
فكان «أهل الحل والعقد» في ذلك الزمان رجالاً تدبر بمشورتهم شؤون البلاد الإدارية ويقضى في المسائل التشريعية.. يُستشارون من قبل الخليفة في الإدارة والتشريع ثم ينتهي دورهم عند الإشارة عليه.
وكان «القائمون بالحكم والإدارة» أمراء آخرين لم يكونوا منهم، وما كان لهم من تدخل في التشريع. وكان «القضاء» من رجال آخرين غير هؤلاء وأولئك، ولم يكن عليهم شيء من المسؤولية عن شؤون البلاد الإدارية.
أما عن استقلال القضاء استقلالاً تامًّا، وانفصاله عن السلطة التنفيذية فيما دون الخليفة، فيؤكد المودودي ذلك قائلاً: «ونحن لا نجد رجلاً واحدًا جمع بين وظيفتي القضاء والإدارة في قطر واحد في ذلك الزمان؛ وكذلك لم نعثر على شيء يبيح لعامل من العمال أو أمير من الأمراء أو لرئيس الدولة نفسه أن يتدخل في أحكام القاضي في المحكمة، أو يدل على أنه يجوز استثناء رجل – ولو من أعظم الرجالات نفوذًا وسلطة – من الحضور في المحكمة ليُسأل في القضايا المدنية والجنائية».
ثم يتعرض المودودي لما قد يثور من لبس حول جمع الخليفة أحيانًا بين السلطة التنفيذية – وهي مهمته بالأساس – والسلطة القضائية، فيوضح أنه «إذا كان رئيس الدولة قد جمع في ذاته بين سلطات هاتين الشعبتين [التنفيذية والقضائية]، فما ذلك بموجب حكم من الأحكام الشرعية، بل لأن الناس كانوا على ثقة من الخليفة بأنه إذا تمكن من كرسي القضاء في المحكمة، فلن يراعي في أقضيته مصالحه الإدارية؛ بل كان الناس قد بلغت ثقتهم بالخلفاء الراشدين مبلغًا جعلهم يودّون بأنفسهم أن يكون الخلفاء هم المرجع الأخير في قضاياهم ليجدوا عندهم العدل إن لم يجدوه عند غيرهم».
ويخلص المودودي إلى أننا «إذا كنا لا نجد اليوم من يمثل أبا بكر الصديق [حتى نجمع له السلطتين]، فلا توجد أيضًا في الشريعة قاعدة من قواعد الدستور الإسلامي تقيّدنا بضرورة الجمع في شخص رئيس الدولة بين منصبَيْ رئيس القضاة والحاكم الأعلى لإدارة الحكومة».
أي أن المودودي ينتهي إلى أن مسألة الجمع بين السلطتين التنفيذية والقضائية في النظام الإسلامي هي مسألة تاريخية، لها ظروفها وملابساتها، وليست أمرًا محتمًا توجبه الشريعة؛ وبالتالي فلنا أن ندخل تغييرات على هذه الصورة من ممارسة السلطتين معًا، تمامًا كما لنا «أن نضعَ طرق انتخاب أهل الحل والعقد وقواعد مجلسهم على حسب أحوالنا وحاجاتنا، ونجعلَ المحاكم على درجات مختلفة بسلطاتها المعينة وحدود سماعها للأقضية وحدود أعمالها»[18].
الخلاصة:
هكذا يتبين لنا من خلال عرض وجهتي النظر حول مبدأ «الفصل بين السلطات» في منظور النظام الإسلامي، أن الاختلاف بين هذين الرأيين يكاد يفضي إلى لا شيء، وأنهما متفقان، اللهم إلا في الصياغة الشكلية في التعبير عن مضمونهما.
فأصحاب الرأي الأول يقولون بأن الإسلام لم يعرف الفصل بين السلطات بالمعنى الذي استقر حديثًا، خاصة في فترة النبي صلى الله عليه وسلم الذي اجتمعت له رئاسة السلطات الثلاث؛ لكن حدث الفصل تدريجيًّا من عهد أبي بكر، ثم رسخه عمر فيما يتصل بالسلطتين التنفيذية والقضائية، فقد جعل لكل إقليم واليًا وقاضيًا. ولم يكن هذا الفصل من باب خشية الاستبداد – كما هو الحال في التجربة الغربية – بل من باب توزيع الأعمال. فالإسلام لا يوجد فيه ما يوجب الفصل بين السلطات، أو يمنع منه؛ وتبقى القضية في حدود المصلحة.
وهذا هو بالضبط ما انتهى إليه الأستاذ المودودي، الذي يرى أن تجربة الوصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية هي مسألة تاريخية، لها ظروفها وملابساتها، وليست أمرًا محتمًا توجبه الشريعة؛ ولنا أن نجتهد فيها كما نجتهد في سائر المسائل السياسية التي تركتها النصوص مراعاةً لحاجات الناس، وتغير أحوالهم.
أما فيا يتصل بالسلطة التشريعية فيرى أصحاب الرأي الأول أنها انتهت إلى الفقهاء، فيما هو محل للاجتهاد. بينما يرى الآخرون أنها انتهت إلى أهل الحل والعقد، الذين كانوا يُستشارون من قِبَل الخليفة في الإدارة والتشريع ثم ينتهي دورهم عند الإشارة عليه.
ولا فرق جوهريًّا بين الرأيين؛ فقد كان أهل الحل والعقد يشتملون على الفقهاء، أو يعتمدون على آرائهم فيما يتصل بالتشريع.
ومن ذلك نخلص إلى أن «الإسلام/ النصوص والمبادئ» ليس فيه ما يدعو أو يعارض الفصلَ بين السلطات، أما «الإسلام/ التجربة» فقد عرف الوصل بينها في البداية ثم تدرج الأمر إلى نوع من الفصل واستقلال كل سلطة عن الأخرى.. والمسألة برمتها اجتهادية، لا بأس أن نستفيد فيها مما عند الآخرين؛ لضبط العلاقة بين السلطات الثلاث، وتحقيق التوازن بينها ومنع تغول إحداها.
[1] «الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري»، د. نعمان أحمد الخطيب، ص: 182، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط 7، 2011م، عمان، الأردن. بتصرف.
[2] يعد جون لوك أول من كتب عن مبدأ «الفصل بين السلطات» في ظل النظام النيابي الذي تأسس في إنجلترا عقب ثورة 1688م, وتأثر في آرائه بالخلاف الذي كان قائمًا بين الملوك والبرلمان الإنجليزي. ووضح لوك آراءه في كتابه «الحكومة المدنية»؛ حيث قسم سلطات الدولة إلى أربع، وهي: السلطة التشريعية ووظيفتها سن القوانين، والسلطة التنفيذية وتقوم بتنفيذ القوانين والمحافظة على الأمن الداخلي، والسلطة الاتحادية ومهمتها إعلان الحرب وتقرير السلم، وعقد المعاهدات ومباشرة العلاقات الخارجية، وسلطة التاج؛ أي مجموعة الحقوق والامتيازات الملكية للتاج البريطاني. «النظم السياسية، الدولة والحكومة»، د.محمد كامل ليلة، ص: 303، دار الفكر العربي، 1973م.
[3] «النظم السياسية في العالم المعاصر»، د. سعاد الشرقاوي، ص: 111، 112، 2007، نسخة pdf ليس مكتوبًا عليها دار النشر.
[4] المصدر نفسه، ص: 111، 112.
[5] «موسوعة السياسة»، تحرير: عبدالوهاب الكيالي، 4/ 547، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بدون تاريخ. بتصرف يسير.
[6] «النظم السياسية»، د. سعاد الشرقاوي، ص: 92، مصدر سابق. بتصرف يسير. لم أتعرض تفصيلاً لهذه الأنظمة؛ لأن الغرض الأساسي هو التعرف على موضع مبدأ «الفصل بين السلطات» من النظام الإسلامي اتفاقًا أو اختلافًا؛ لا الاستفاضة فيما نشأ عن هذا المبدأ من أنظمة سياسية متعددة.
[7] «الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي»، وائل حلاق، ص: 103، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر، ط2، 2015م.
[8] المصدر نفسه، ص: 104.
[9] المصدر نفسه، ص: 96.
[10] المصدر نفسه، ص: 111.
[11] المصدر نفسه، ص: 143.
[12] «وائل حلاق.. والتاريخ المستحيل»، عبدالله العودة، مقال منشور بموقع «التقرير»، بتاريخ 5 مارس 2015م.
[13] يقول المستشار محمد وفيق: «وكلامه [أي وائل حلاق] عن الفصل بين السلطات معيب قانونيًّا وتاريخيًّا؛ إذ لم يُفرق – بشكل واضح – بين النظرية والتطبيق؛ ففي (النظرية) الفصل بين السلطات مُقرر بشكل كامل في الدولة الحديثة، ومُقرر بشكل مُقيد في الدولة الإسلامية، وفي (التطبيق) فهو منقوص في النظامين في أزمنة كثيرة ثابتة تاريخيًّا – وزمن أحمد بن حنبل وابن تيمية وغيرهما رحمهما الله يشهد بذلك – وهذا لا يعيب (النظرية) و(التطبيق) الموافق لها في العهود الأولى وبعض الأزمنة!!». انظر مقاله: «رؤية نقدية لكتاب الدولة المستحيلة»، منشور على موقع «الأمة»، بتاريخ 14 مارس 2015م.
[14] «النظرية العامة لنظام الحكم في الإسلام»، د. عطية عدلان، ص: 448، دار اليسر، ط1، 2011م.
[15] المصدر نفسه، ص: 447، 448. بتصرف واختصار كبير (وينقل د. عدلان عن: «المجتمع الإسلامي وأصول الحكم» د. فتحي الدريني، «السياسة الدستورية للدولة الإسلامية» د. إبراهيم النجار، «مذكرات في نظام الحكم والإدارة في الدولة الإسلامية» المستشار عمر الشريف، «العلاقة بين السلطات في النظام البرلماني والنظام الإسلامي» د. بكر راغب الشافعي). وراجع أيضًا: «رياسة الدولة في الفقه الإسلامي»، د. محمد رأفت عثمان، ص: 374، دار الكتاب الجامعي، بدون سنة نشر.
[16] لعله يقصد: التشريع ابتداءً، وإلا فقد كان الخلفاء الراشدون الأربعة من كبار علماء الصحابة ولهم نظرات اجتهادية كما هو مفصل في كتب تاريخ التشريع؛ لكن بالطبع فيما لا يخالف نصًّا قطعي الثبوت قطعي الدلالة. راجع على سبيل المثال «التشريع والفقه في الإسلام، تاريخًا ومنهجًا»، الشيخ مناع القطان، خاصة الصفحات: 138- 171، مؤسسة الرسالة، ط7، 1986م.
[17] «النظام السياسي في الإسلام»، د. نعمان عبدالرزاق السامرائي، ص: 131- 133، ط2، 2000م، طبعة خاصة بالمؤلف. بتصرف واختصار.
[18] «تدوين الدستور الإسلامي»، المودودي، ص: 35- 38، طبعة دار القارئ العربي، 1991م، القاهرة. باختصار وتصرف يسير.