المؤرخ ابن كثير وأحداث دماج
المؤرخ ابن كثير وأحداث دماج
البداية والنهاية
الرشاد برس- آدم الجماعي
في نهاية هذا العام (1434) سمعنا أن مجموعة من أهل السنة في صعدة بمنطقة دماج.. قد حاصرهم الشيعة الحوثية المتغلبين عليها منذ عام 1424 حيث نابذوا الدولة العداء، وحاربوها ستة حروب، وكلما كادت الدائرة أن تدور عليهم، ويضيق بهم الخناق.. تدخلت طوائف لدى الدولة القائمة ﻹيقاف الحرب عليهم، بدعوى عودتهم إلى المسالمة ليكونوا مواطنين صالحين كأبناء صعدة..إلا أنهم كانوا يشترطون على الدولة حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الشيعية كالغدير وعاشوراء.. فأعطتهم الدولة شروطهم.
ولكنهم بما جبلوا عليه من مكر كانوا إذا وجدوا من أنفسهم حيلة هاجموا العساكر وقتلوا وسلبوا وفروا إلى جبال مران وحيدان وعزان ليتحصنوا فيها.. حتى استطاعوا أن يخذلوا الدولة القائمة، ويشقوا صفوف العسكر عن طريق الموالين لهم في الدولة..
وفي كل حرب كانوا يعتدون على طلاب الحديث في دماج ويقتلون منهم، وهؤلاء الطلاب كانوا متجردين عن السلاح.. وكانوا منعزلين عن حرب الدولة لهم، ويقولون أنها فتنة وأفتى بهذا في حينه الشيخ المحدث يحيى الحجوري..
فعلى شدته في جرح المخالفين، ونقده للمبتدعين. لكنه حذر من فتنة القتال ضد الشيعة الحوثية. ولم يشفع هذا لدى الشيعة.
وبعد أن توقفت الحرب إلى ست حروب مع الدولة ولم تغلبهم.. زادت هذه النشوة من قوتهم، وتوسع نفوذهم، وسلحوا الشباب ونهبوا بعض المعسكرات بالقوة تارة وتواطؤ الموالين لهم بالمذهب أو بالرهبة تارة أخرى.. حتى جيشوا من استطاعوا تجييشهم فأرسلوهم على البلاد والعباد يمينا وشمالا ليسوموا المخالفين لهم سوء العذاب بالتنكيل والقتل والتهجير…فمن كان ذا قوة من القبائل صدهم بقوته، ومن كان ضعيفا ترك داره وماله وهاجر إلى جهة صنعاء.. حتى اكتضت مخيمات اللاجئين بأهلها وقيل أنهم وصلوا إلى 150ألف مواطن.
وهكذ فكلما دخلوا منطقة أفسدوا فيها فسادا كبيرا.. فلم يستبقوا حرمة لمسجد أو امرأة أو طفل أو عاجز…وإذا شعروا أنهم لا بد خارجون منها زرعوها باﻷلغام في كل مكان يدلهم عليه الشيطان.. حتى زرعوها في غرف النوم، والمطابخ، ودورات المياه، وجوار اﻵبار، وفي المزارع، وتحت جثث الموتى… فإذا رجع الناس إلى بيوتهم ومزارعوهم ظنوا أنها آمنة فيتطايرون أشلاء على الطرقات واﻷبواب والمزارع .. حتى بلغ بهم الخوف ما الله به عليم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولعلنا قد تكلمنا على جرائمهم في أكثر من موطن، ولكن الكلام يأخذ بعضه بأعناق بعض.
نعود إلى ما يحدث في هذا العام منذ عيد الفطر المبارك في منطقة دماج المحاصرة، فقد بلغنا من الخبر المتواتر عن طلاب العلم في تلك الديار ما يندى له الجبين، وتتفطر له اﻷفئدة. بأنهم منذ سنتين يعانون من قلة الزاد، وسوء المعاش، وانقطاع السبل، والنقص في الأغذية، واعتلال اﻷبدان باﻷسقام، وقلة الدواء، وازدياد عدد الموتى، والخوف المحيط بهم من كل جانب حتى أنهم يدفنون موتاهم في بيوتهم خوفا من قناصات الحوثية.
ولقد بلغنا أنهم يطوون اليوم واليومين بأكلة واحدة ليتركوا قليل الطعام ﻷطفالهم، ويسحقون اليابس من فضلات الخبز لصغارهم.. حتى بلغ بهم الجهد مبلغه! نسأل الله أن يرفع عنهم البلاء.
ولكنهم مع هذا البلاء العظيم، والحصار المميت القاتل.. قد أخذوا أنفسهم بالصبر والاحتساب، واﻹيمان بقضاء الله وقدره.. ويعكفون على طلب العلم ودراسة الحديث والفقه.. وسمعنا أنهم يتراحمون فيما بينهم، ويؤثر بعضهم أخاه، ويتفقد الجار جاره، ومن وجد معروفا بذله لأخيه..وإنهم يتواصون على الصبر، ويتعاهدون على الحماية. وأن الشيخ يحيى الحجوري وأعيان المنطقة يديرون شؤون الناس بالعدل، ولم يشتهر بينهم منكر كالسرقة أو غيرها، ولم ترتفع اﻷسعار رغم نفاذها وشدة الحاجة إليها.. ولعل هذه اﻷخلاق هي من أسباب التمكين والرعاية.
ولا يزالون وهم على قهرهم يلجؤون إلى الله في كل الأحوال لعله يكتب لهم النجاة من بطش هؤلاء الجهلة والظلمة..! ولن يضيعهم الله أبدا.
وبعد عيد اﻷضحى اشتدت الوطأة عليهم من الحوثية، وحشدوا حولهم المسلحين، وجلبوا الدبابات والمدافع والحميضات والمدرعات ..من كل جانب.. مؤذنين على أهل دماج بالدمار والفناء..! إلا أن أهالي دماج رفضوا الاستسلام وأخذوا بأسباب الدفاع وأعلنوا النصرة، وناشدوا الدولة الثانية القائمة بعد انهيار الدولة اﻷولى.. ولكن لم يستجيبوا لهم، ولم تأخذهم في الله رحمة..
وقد استجاب لنصرتهم من استطاع وأحاطوا بصعدة من جميع الجهات فينالون من جيش الحوثية تارة، وينال منهم تارة..
ورغم هذا فإن الحوثية ما زالوا يضربون دماج بكل ما أوتوا من قوة..بوحشية وطغيان..
وما زال أهل دماج يقفون على مداخلها بثبات جأش، وبأس منقطع النظير، وليس بينهم وبين صفوف الحوثية إلا مسافات قصيرة يتراءى بعضهم لبعض، ويسمع بعضهم صوت بعض، وربما اشتبكوا ليلا واختلطت أصوات الحوثية بتكبيرات شباب دماج. ولكن الله تعالى يمدهم بقوته، ويخذل الحوثية بقهره وعدله.
وإن مما يؤسف له أن اﻷمة قد ضرب بها من سوء الطباع، وفساد الفطرة.. ما جعلهم منشغلون بالمكايدات الحزبية، ومتفرقون في الرأي والمشورة، ومستضعفون أمام الطوائف المبتدعة.. حتى قل فيهم الناصر ﻹخوانه، وكثر فيهم المخذلون.. فلعل فيهم الشامت، وفيهم الذام، وفيهم الساكت سكوتا معيبا، وفيهم العاجز ليس لقلة وإنما لسوء تدبير.. فلم يجتمعوا رغم المصيبة العظيمة على رأي، ولم يتعظوا بالبلاء الشديد ليصلحوا ذات بينهم..
أحسن أهل السنة حالا من يندد بالبيانات مع دماج، ويدعوا إلى وقفات الاحتجاج على أبواب السلاطين لإنقاذ المحاصرين..
إنني وأنا أكتب هذا الحدث أذوب خجلا، وأعتصر ألما وحزنا من ضعف الناصر، وقلة ذوي النجدة، وفساد المشورة، وغياب الرجل الرشيد، واضطراب القلوب..
وإنك لتسمع بعض خطباء الجمعة فتحزن على ما وصلنا إليه من قسوة القلوب.. عندما يتندرون بآرائهم، ويستعرضون ببنات أفكارهم بالنوادر الممجوجة، والتفاصيل الشاذة.. بقلة حياء، وانفراط عقل.. وكأن الدماء المسفوحة في صعدة لا تعنيهم..
وإذا كان هذا حال بعض الخطباء فقد كفيتك مأساة ذوي السياسة والرياسة واﻷحزاب ومن دونهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإلى حين كتابة هذه السطور فقد بلغنا أن من أهل النجدة من الشباب من يدخل إلى دماج ويواجه مخاطر الموت، ويحمل كل مرة بعض اﻷدوية وحليب اﻷطفال واﻷغذية على قلتها…وهذه نجدة كريمة وعظيمة، يصلح الله بها حال البعض، وييسر بها شيئا من المعاش. وإن أجرهم وهم بهذا الصنيع لا يقل عن المجاهد.
ﻷن الناس قد غلب عليهم الظن أنه لا حيلة للدخول إلى دماج ووصول الطعام والشراب..بسبب وحشية الحوثية، ونهبهم للمعونات قبل أن تصل… فكأن هذا الخبر جاء بشيء من الفرج على إخواننا. وما ذلك على الله بيسير.
ومع هذا لم تسلم هذه القلة من الانتقاص والتخذيل فقد ظهر من الناس من يهزأ بهم، ويسخر مما قدموه بأنه قليل، وأكثروا عليهم من السخرية. وهكذا عندما تبلغ المصيبة مبلغها، فإنها تتعاظم بفساد العقول، وانحراف الطباع حتى يزداد البلاء على أهل الخير والمروءة، ويكفر بعض الناس بمعروفهم. نسأل الله السلامة.
فالمصيبة في هذا الزمان قد أحاطت بالديار والقلوب، وشملت والأبدان واﻷديان.. ولا ندري ماذا تخبئ اﻷيام، وعما ينجبه رحم الدهر، وكيف تصير اﻷمور بأهلها. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هكذا كان سيكتب ابن كثير لو عاش زماننا..!!.
فاخجلوا أن يسطر عنكم التاريخ العار والخذلان..