مقالات

جذور العلمانية في تعز

لعل المتابع يلاحظ أن كثيرا من الأسماء العلمانية والليبرالية في اليمن هي تعزية الأصل وبالذات من منطقة الحجرية (التي تضم عشر مديريات)، من أمثال بشرى المقطري وأحمد سيف حاشد وسامية الأغبري وغيرهم في الحاضر، وعبدالفتاح إسماعيل والقيادات الناصرية والاشتراكية في السابق.

وهذا الأمر صحيح، وله أسباب متعددة، من أبرزها أن تعز كانت حاضرة اليمن لقرون متعددة، وعاصمة للدول الأيوبية والرسولية والطاهرية والعثمانية، واعتبر كثير من أعيان ومشايخ وعلماء ومثقفي تعز دخول الإمام يحيى إلى تعز قبل قرن من الزمان احتلالا مذهبيا غريبا، وحاولوا مقاومته، وحصلت معارك متعددة، وتعامل الإمام يحيى بعنف وقتل وسجن لبعض المشايخ القبليين حينها، مما أدى لنشوء ظاهرة تمرد على الدولة ورفض لها، كانت أحد أهم أسباب الثورات اليمنية في 48 و62م.

إلى الآن لم يبدأ النفس العلماني في تعز.

ولكن بعد ثورة 62م تفاجأ التعزيون بأنهم لم يصيروا شركاء في الحكم كما كانوا يتوقعون، واستغربوا من محاولات الإقصاء المتعمدة والمستمرة من النخب العسكرية الثورية المنتمية لمحافظات صنعاء وماحولها.

وذلك الأمر أدى إلى خلافات علنية في أواسط الستينيات في اليمن داخل الجيش، ثم صدامات عسكرية وتصفيات وانشقاقات في الجيش، كان قمتها في سنة 1968م.

بعدها هاجر كثير من القيادات التعزية إلى الجنوب يحملون الشعور بالقهر والظلم والإقصاء والتهميش، والرغبة في العمل ضد نظام صنعاء بأي وسيلة.

وكانت التوجهات القومية اليسارية في الجنوب بعد التحرير هي الرائجة حينها في تلك الفترة، وكانت تحمل شعارات للتحرر ضد الظلم والإقصاء، فتسربت إلى نفوس وعقول تلك القيادات التعزية سواء منها العسكرية أو الثقافية.

وفي الفترة التالية بدأ التوجه لإنشاء جبهة التحرير الوطنية في المناطق الوسطى في اليمن الشمالي، بدعم من حكومة اليمن الجنوبي، وذلك ابتداء من سنة 72م، وتغلغ معها بشكل تدريجي الفكر القومي واليساري في تلك المناطق.

وجاءت فترة حكم الرئيس إبراهيم الحمدي (75-77) لتشهد دعما كبيرا وغير محدود للفكر القومي واليساري، وذلك عن طريق فتح المجال للقيادات الناصرية للتغلغل في جميع مفاصل الدولة، والتأثير على مفاصل التربية والتعليم والمجالس المحلية، وكذلك غض النظر عن الدعاية الاشتراكية المتطرفة في بعض مناطق الجنوب، وبالذات في الحجرية.

كانت بعض المناطق في الحجرية (مثل المعافر والشمايتين والمقاطرة وغيرها) تشهد نوعا من الفكر الاشتراكي المتطرف، فعرف فيها الاختلاط الواسع في المدارس الثانوية والإعدادية، وانتشار التنظيمات الشبابية الاشتراكية، وحركاتها الكشفية وحلقاتها التنظيمية في المدارس والقرى، مما أدى لنوع من تغلغل هذا الفكر الغريب عن جسد الأمة بشكل واسع النقاط.

كانت هناك مقاومة فكرية وتنظيمية إسلامية في بعض القرى في تعز والحجرية، ولكنها كانت مضطهدة ومحاربة من النظام، وتتعرض لأنواع متطرفة من الاستفزاز، وصل إلى درجة خروج مظاهرات في مدينة تعز يصيح فيها بعض اليساريين (لا يحكم الشعب بعد اليوم من صلى).

كل هذه التطورات أنشأت جيلا سابقا من القوميين المتطرفين، والذين بدأت شمسهم في الأفول في بداية الثمانينات بعد دخول الإسلاميين كطرف قوي ومؤثر في الحرب ضد جبهة التحرير الوطني اليسارية، مما أوشك أن يجعلها تخسر الحرب لولا الصلح الذي عقده الرئيس السابق علي عبدالله صالح معهم في سنة 82م، مما أبقى لهم رمقا من الحياة.

استمر ذلك الرمق الضعيف حتى جاءت الوحدة في سنة 90 ونشأت الأحزاب السياسية اليمنية، فكان منها الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في الجنوب سابقا، وانضم له اليساريون الشماليون، ونشأت أربعة أحزاب ناصرية متنوعة، وأحزاب قومية أخرى.

وكانت المواجهات الأولى بين الإصلاح والاشتراكي في معركة الدستور سنة 91 ثم في معركة الانفصال العسكرية سنة 94 سبب في زيادة تطرف اليساريين حينها.

واجتذبت تلك المواجهة كثيرا من الناصريين والقوميين إلى جانب الاشتراكي للتشابه في التوجه اليساري، وكذلك كثيرا من النخب المبغضة للتدين في الصحافة والإعلام والتعليم والسياسة.

ويعرف أهل تعز جيدا أن معظم الناس هناك كانوا يؤيدون علي سالم البيض غداة حرب 94 وبشكل جارف بسبب المعاناة القديمة من الإقصاء والتهميش في أنظمة صنعاء المتعاقبة، والتي استطاع علي سالم البيض وحزبه أن يلعبوا على وترها بشكل جيد.

فكان يتناول في خطاباته وكذلك حزبه في صحيفته المشهورة (صوت العمال) المظلومية الشافعية، وضرورة المشاركة في الحكم، وغيرها من العبارات التي تخاطب النفسية التعزية في العمق.

ولكن إعلان علي سالم البيض ما يسميه فك الارتباط مع الشمال كان ضربة لكل تلك الجهود، وأدى لانحراف التأييد الجارف له ليصير ضده، وشعر التعزيون أن الرجل والحزب كانوا يتلاعبون بمشاعرهم فقط لتحقيق مصالح شخصية وحزبية.

وذلك أدى لانخفاض التأييد الشعبي للاشتراكي والناصري بشكل كبير في تعز بعد ذلك التاريخ، وصارت معظم النخب العلمانية لاحقا نخبا ليبرالية مستقلة غير منتمية للأحزاب.

ولا يجمع تلك النخب سوى بغض التدين من ناحية، واعتبار الحركة الإسلامية المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين شريكا في تهميش تعز باعتبار قياداتها متحالفة مع نظام صنعاء، وخاصة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وأبناؤه مشايخ قبيلة حاشد المتحكمة بالسلطة في صنعاء.

وبعد الانتخابات الأخيرة في العقد الماضي والتي خسرت فيها الأحزاب الاشتراكية والناصرية معظم مقاعدها في مجلس النواب واكتفت بسبعة مقاعد اشتراكية وثلاثة ناصرية ومقعد بعثي، في مقابل أكثر من خمسين مقعدا لحزب الحركة الإسلامية، صار التوجه العلماني الجديد هو توجه التحدي ولفت الأنظار ومخالفة الثوابت والطعن في المسلمات.

وهذا التوجه سببه –حسب متابعتي الشخصية- هو حالة الإحباط والخسارة التي يشعر الليبراليون بمرارتها بعد فقدهم للدولة التي كانت ظهرا لهم، والقوات العسكرية والحزبية التي كانت تدعمهم، والجماهيرية التي كانوا يوهمون أنفسهم بها، وفي الأخير خسارة الحاضنة الشعبية التي كانت تمدهم بالتأييد في المدن والأرياف والمديريات التعزية.

ولعل هذا النفس الليبرالي الساخط الذي يحاول لفت النظر له بالطعن في الذات الإلهية والتعدي على الثوابت سيلجأ لكل عدو للإسلاميين للتحالف معهم، سواء كانوا حوثيين أو حزب علي صالح سابقا أو أية توجهات لاحقا.

ولكن يظهر أن مشاعر الإحباط سوف تلاحقهم لسنوات طويلة، والله أعلم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى