تقارير ومقابلات

ضرورة الشريعة (1- 2)

أنور الخضري  رئيس مركز الجزيرة للدراسات والبحوث
أنور الخضري
رئيس مركز الجزيرة للدراسات والبحوث

من المسائل التي تناولها علماء الإسلام واختلفوا فيها مسألة الشريعة التي كان يتَّبعها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته، وقد أخذت آراء العلماء ثلاثة اتجاهات في المسألة : الأول: القول بأنه ـ عليه الصلاة والسلام – كان يعمل بشرعة من قبله، ثم اختلفوا على أي شرعة من شرائع الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام – كان يعمل؟! . ففريق قال: شرعة نوح، وآخرون قالوا: شرعة إبراهيم، وبعضهم قال: بل شرعة موسى، وفريق رابع قال: شرعة عيسى؛ (عليهم صلوات الله وسلامه جميعا )؛ وقيل غير ذلك، وهؤلاء رجحوا هذا المذهب على اعتبار أنه لا بُدَّ للمرء العامل والمتعبد من شرعة يمضي عليها، وحيث أنه لم يخاطب بشرعة خاصة فإنه لا بُدَّ أن يكون متبعا لشرعة سابقة، فلا يمكن أن يكون على غير شيء، لأن هذا عدم . الثاني: القول بأنه ـ عليه الصلاة والسلام – كان على سيرة قومه وما كانوا عليه من ملة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام – بما دخل عليها من تحريف وشرك؛ لأن مكة لم تعرف غير ذلك فلم يشتهر فيها وجود لأهل الكتاب، كما أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له صلة بأحد من أهل الكتب السابقة، قال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ }( النحل: 102- 103 )، وقال سبحانه: { إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا }( الفرقان: 4- 6 ) . ويستدل أصحاب هذا الرأي بأنه لا يمتنع أن يكون الأنبياء على ملة أقوامهم، وإن ثبتت عصمتهم من الكذب والفواحش والخيانة، لقوله تعالى في شأن شعيب ـ عليه الصلاة والسلام – مع قومه: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين }(الأعراف: 88- 89 )، وقوله في سورة إبراهيم: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ }(إبراهيم:13)، فظاهر الآيات ـ كما أشار ابن تيمية وغيره – أن شعيبا وغيره كانوا على ملة قومهم . ويقول ابن تيمية: ” التحقيق أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه، حتى في النسب، كما في حديث هرقل . ومن نشأ بين قومٍ مشركين جُهَّال لم يَكُن عليه نَقصٌ إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروفا بالصدق والأمانة، وفَعَل ما يَعْرِفُون وجُوبه، وتَرَك ما يَعْرِفُون قُبحَه، قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }(الإسراء: من الآية15)، فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب، وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا، وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع ” . الثالث: القول بأنه ـ عليه الصلاة والسلام – كان من جملة الأحناف الذين خالفوا قريشا في الشرك فقط، وقد سجلت السيرة النبوية في هذا الإطار ذكر رجلين بمكة هما: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل . أما زيد فقد تُوفي في قبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم ـ، وقصته في صحيح البخاري عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إن لعلِّي أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله! قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنَّى أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟!، قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله!، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا وأنَّى أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام – خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم . وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في شأن زيد: ( دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين ) رواه ابن عساكر وحسنه الألباني . وعن سعيد بن زيد: قال سألت أنا وعمر بن الخطاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن زيد بن عمرو، فقال: ( يأتي يوم القيامة أمة وحده ) رواه أبو يعلى وقال الشيخ حسين أسد: إسناده حسن . أما ورقة بن نوفل فقد أدرك مبعث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجلس إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع خديجة ـ رضي الله عنها – ليقُصَّ عليه ما رآه وسمعه في غار حراء، وكان يقرأ الإنجيل بالعربية، فأخبره بأنه الوحي وأنه نبي هذه الأمة، ووعده إن طال به العمر أن ينصره، وقد سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ورقة بن نوفل فشهد له بالجنة . يقول ابن تيمية مشيرا لهذا الرأي: ” وما ذكر أنه – صلى الله عليه وسلم – بغضت إليه الأوثان لا يجب أن يكون لكل نبي؛ فإنه سيد ولد آدم؛ والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم ” . إلا أنه لم يشتهر عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه كان من هؤلاء الأحناف أو المخالفين لقريش، ولو كان كذلك لما أُنكِر عليه دعوته للتوحيد وإخباره بالنبوة، لأن من شأن هذا الأمر أن يُمهد لقومه قبول هذا التحول، فلمَّا عُلِم أنَّه لم يناقش في أمر كهذا أو ينسب إليه قبل، أو أن يدعيه فيهم بعد نبوته ليكون من دلالات النبوة لا يترجح هذا القول ـ والعلم عند الله ـ . واختلاف العلماء في هذه المسألة، واجتهاد البعض في إثبات شيء من هذه الأقوال ونفي البعض أن ينسب إليه شيء من ذلك، يدل على عمق فهمهم ودقة فقههم، فالمسألة وإن لم يثبت فيها نَصٌّ إلا أن تناولها نظريا ليس محرما ولا مكروها، ولا يُردُّ على من أثارها بقول الله تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }(الإسراء: من الآية36)، لأن البحث في مسائل الفقه التي لا نصَّ فيها كثير، ولو استدل بهذه الآية عليها لبطل الكثير من أبواب الفقه، كما أن القول بأنه لا ينبني عليها عمل قول غير صحيح، وجوهر الفائدة من البحث في هذه المسألة يتعلق بجانبين: – مسألة التعبد المغروسة في فطرة الإنسان واستجابة الإنسان لها. – حاجة الإنسان لشريعة تنتظم شئونه مع ما حوله من عوالم. فيبقى أن النظر في المسائل يختلف باختلاف الأفهام والمقاصد والدربة الفقهية لمن يبحثها، فإن تصور تعبد أو عمل ونظام يمارسه إنسان دون أن تكون له مرجعية أو خبرة سابقة منتفٍ عقلا وشرعا، وحاجة الإنسان لهذين الأمرين لا تنفك عنه، فكان لا بُدَّ من أمر يَسُدُّ عليه تلك الحاجة ويلبي لوازمها، لهذا فإن القول أنه – صلى الله عليه وسلم – كان على غير شرعة وهدي قول ينافي العقل ويَسنِدُ إلى عدم، وهذا عين الغفلة والجهل . فإذا عُلِم ذلك، يبقى السؤال ملحا: بماذا تعبَّد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل بعثته، وبأي شريعة عمل في حياته خلال عمره حتى بلغ أربعين عاما؟! . إذا جزمنا بأن شأن شعائر التعبد وشرائع العمل في جزيرة العرب، التي مثلت حاضنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم – في نشأته وحركته قبل الهجرة، لم تعرف ديانة غير اليهودية والنصرانية وما كان عليه إسماعيل وذريته من بعده؛ وأن اليهودية والنصرانية كانتا طارئتين على الجزيرة العربية كونهما نشأتا على أرض الشام وفي بني إسرائيل ( وهم ذرية يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ابن إسحاق ابن إبراهيم )، وانتشرتا فيما بعد حتى بلغت مصر والعراق واليمن، لكنها لم تتوغل في العرب ومركزهم الديني مكة المكرمة، علمنا قطعا بطلان القول بأنه كان يتبع شرعة موسى أو عيسى ـ عليهما الصلاة والسلام. فلم يبق إلا أن يكون ـ عليه الصلاة والسلام – متبعا لبقايا موروث إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما الصلاة والسلام ـ، وحيث أن المصدرين الشرعييين – الكتاب والسنة – لم يتحدثا عن كتاب أنزل على إسماعيل، إلا أن الثابت أن إسماعيل – عليه الصلاة والسلام – كان نبيا، ومعلوم أن مكة في ذلك الحين كانت مهجورة، ((واد غير ذي زرع)) لا ماء فيه ولا عمران، فجاءت قبيلة جرهم فجاورت هاجر وابنها عند ظهور زمزم، فلم تكن مكة حاضرة ولم تكن حولها أمة أو حضارة؛ ومن ثمَّ فإن التشريع الذي تحتاجه بيئة كهذه سيكون تشريعا بسيطا، والأنسب فيها هو البناء العقدي والتعبدي والأخلاقي . فقد خلت مكة وما حولها من بعث أي نبي أو رسول، يقول تعالى: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }(القصص: 46 )، وقد جاء في حديث أبي سفيان مع هرقل أنه سأله: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ (يعني: هل ادعى أحد النبوة قبله) قال: لا، وهذا يدل على أن قريشا ومكة كانت مُغلَقَة على موروث ودعوة إبراهيم وإسماعيل – عليهما الصلاة والسلام ـ؛ وإن تلبست بمظاهر الشرك والانحراف في الجوانب التشريعية والأخلاقية . ومن ثمَّ فلا يتصور أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ” النبي الأمي” الذي يجهل ديانة أهل الكتاب، لعدم اطلاعه عليها أو معايشته لأهلها، وقد أصابها من الانحراف ما أصابها كما جاء في الحديث: ( إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرضِ فَمَقَتَهُم عَرَبَهُم وَعَجَمَهُم إِلَّا بَقَايَا مِن أَهلِ الكِتَابِ)، يهتدي إلى الشريعة الحق بمجرد العقل، بل هذا يخالف قول الله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(الشورى: 52)، وقوله سبحانه: { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى }(الضحى: 7 )، فهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا، وإن سبق عليه الاصطفاء بالرسالة، وليست العبادات والشرائع مما تتلقى باجتهاد عقلي، وإن كان أصفى الخلق عقلا وروحا، يقول تعالى: { قُل لَو شَاءَ اللهُ مَا تَلَوتُهُ عَلَيكُم وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَد لَبِثتُ فِيكُم عُمُرًا مِنْ قَبلِهِ أَفَلَا تَعقِلُونَ }(يونس: 6)، ويقول جلَّ شأنه: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }(النساء: 113). وعليه يكون شأن الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم – في أحواله قائما على ما هو شائع في مكة من ميراث إسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ . أما بعد بعثته ومعرفته بالوحي عن الأنبياء من قبله، فإن اتباعه لشريعتهم قبل أن يفرض عليه شيء ظل محل خلاف كذلك، فقد سُئِلَ ابن تيمية : حول ما إذا كان نبينا متعبدا بشريعة من كان قبله أم لا؟، فقال: ” فيه روايتان، إحداهما أن كل ما لم يثبت نسخه من شرائع من كان قبل نبينا فقد صار شريعة لنبينا ويلزمه أحكامه من حيث أنه قد صار شريعة له، لا من حيث كان شريعة لمن كان قبله، وإنما يثبت كونه شرعا لهم مقطوعا عليه، إما بكتاب أو بخبر من جهة الصادق أو بنقل متواتر، فأما الرجوع إليهم وإلى كتبهم فلا “؛ ” وفيه رواية أخرى: أنه لم يكن متعبدا بشيء من الشرائع إلا ما دل الدليل على ثبوته في شرعه ” . ومن رأى بالقول الأول استند إلى أن الحكم إذا ثبت في الشرع لم يجز تركه حتى يرد دليل نسخه، وليس في نفس بعثة النبي ما يوجب نسخ الأحكام التي قبله، فإن النسخ إنما يكون عند التنافي، ولأنه شرع مطلق فوجب أن يدخل فيه كل مكلف إذا لم ينسخ بشرع نبينا، ولأن نبينا كان قبل بعثته متعبدا فدل على أنه كان مأمورا بشرع من قبله، وهذا من قبيل استصحاب الحال، لأنه شرعٌ شرعه الله ولم ينسخه، وعلى هذا يكون ثبوته في حقنا إما لشمول الحكم لنا لفظا، وإما بالعقل بناء على أن الأصل تساوي الأحكام وهو الاعتبار الذي ذكره الله في قصصهم . إذن المسألة في الحقيقة – لمن أدركها – لا تتوقف فقط في شأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام – قبل البعثة، بل تتعلق بشأنه وشأن أصحابه قبل نزول العبادات والشرائع التي فرضت عليه وعلى أتباعه، وجاء في فتوى ابن تيمية أن المسألة ـ أيضا – ” مبنية على أنه لو لم يبعث إلينا محمد – صلى الله عليه وسلم ـ: هل كان يجوز أو يجب التعبد بتلك الشرائع؟ وهي تشبه حاله قبل البعثة “. وعند التأمل في الأخبار والآثار الواردة في السيرة والتاريخ، نجد أن العبادات والشرائع التي كانت عليها مكة على أقسام عدة: – قسم موروث من دعوة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام – وإسماعيل من بعده، وهذا الموروث على صنفين: الأول بقى على صفائه ونقائه كما هو، والثاني أصابه تحريف بإضافة أو حذف أو تبديل. ومن الأول ـ وهو النادر جدا – الذي بقي على صفائه تعظيم الكعبة والبلد الحرام والأشهر الحرم، وإن وقعوا في مخالفتها. ومن ذلك أيضا الختان فقد كان معروفا في العرب. ومن القسم الثاني ـ وهو الغالب الأعم – ما لحق بصلواتهم وحجهم وصيامهم من البدع، وما دخل على مناكحهم ومآكلهم ومشاربهم من تحريم وتحليل، وقد ذكر القرآن كثيرا من هذه الأمور. – وقسم ما هو دخيل على أصل دعوة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وكان من محدثات العرب أو مما تلقفوها عن غيرهم. كما هو شأن الأصنام، والاستقساء بالأزلام، وشرب الخمر، وغيرها مما أنكره القرآن الكريم إنكارا واضحا من بداية الدعوة . والذي يظهر جليا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم – وصحابته من خلفه، بعد البعثة، مكثوا على ما هم عليه من العوائد والأعمال، إلا ما جاءت الآيات صريحة في إبطاله أو تحريمه؛ ولم يكونوا يؤمروا بما لا يمكنهم إنفاذه والقيام به. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ” وهذا شبيه بالحق ( أي كون أن الحج فرض في السنة التاسعة للهجرة ) فإن سنة ثمان وما قبلها كانت مكة في أيدي الكفار، وقد غيروا شرائع الحج، وبدلوا دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولا يمكن مسلما أن يفعل الحج إلا على الوجه الذي يفعلونه، فكيف يفرض الله على عباده المسلمين ما لا يمكنهم فعله، وإنما كانت الشرائع تنزل شيئا فشيئا، كلما قدروا، وتيسر عليهم أمروا به “. هذا مع كون الحج والعمرة من ميراث إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ومضت قريش فيه على خلاف ما كان عليه شرعا. لذلك يقول ابن تيمية: ” وأما كون الحج والعمرة من دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام – فهذا لا شك فيه، ولم يزل ذلك قربة وطاعة من أول الإسلام، وجميع آيات القرآن تدل على حسن ذلك واستحبابه، وأما وجوبه فلا يعلم أنه كان واجبا في شريعة إبراهيم البتة، ولم يكن لإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام – شريعة يجب فيها على الناس، ويوضح ذلك أنه لم يقل أحد أن الحج كان واجبا من أول الإسلام ” . فـ ” الحُجَّةُ على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلا “، لهذا كانت ” شرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم… تنزل شيئا فشيئا ” . وسوف يتبع بإذن الله تمام الموضوع..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى