عام على سقوط البوابة الشمالية لصنعاء
عارف أبو حاتم
حرصت خلال عام كامل على أن أستمع لشهادات كل من قابلتهم من المعنيين وصناع القرار في تلك اللحظة المفصلية من تاريخ اليمن، التي سقطت فيها البوابة الشمالية للعاصمة بيد مليشيا استقوت بسلاح الدولة واستندت إلى قرارات رجال الدولة من أجل كسر قيمة الدولة.
لم يذكر التاريخ رئيسا تآمر على نفسه، وأسقط دولته بيده، كما فعل هادي، في لحظة كان يبحث فيها عن طريقة تمكنه من التخلص من مراكز القوى الشمالية، وفي مقدمتها صديقه اللدود علي عبد الله صالح.
الخيانة الحاكمة
إذا كان من عنوان لحادثة سقوط محافظة عمران الواقعة على بعد خمسين كيلومترا شمال العاصمة صنعاء بيد المليشيا الحوثية فهو “الخيانة”، وإذا كان لذلك الفعل من قائد وحامل وزر فهو وزير الدفاع السابق اللواء محمد ناصر أحمد.
لا خبر أو تقريرا إعلاميا أو أمنيا أو سياسيا تناول حادثة سقوط عمران والعاصمة وتفكيك معسكرات الدولة وتسهيل دخول الحوثيين إلى كل معسكر ومحافظة إلا وأشار إلى أن الوزير ناصر كان حاملا ذلك الوزر.
وكل من التقوه لكي يراجعوه أو يعتبوا عليه يرد عليهم بجملة واحدة: “أنا أنفذ توجيهات الأخ القائد” أي رئيس الجمهورية. ومَن ظل مترددا أو شاكا في اتهام الوزير ناصر عدل عن رأيه بعد عرض قناة الجزيرة الفيلم الوثائقي “الطريق إلى صنعاء”، وفيه تفصيل لدور ناصر المنفذ لتوجيهات قائده.
وحين تقدم أحد السياسيين بعتاب قاس لرئيس الجمهورية، فتح الأخير مكبر صوت جهاز هاتفه واتصل بالوزير ناصر يطلب منه تفاصيل ما جرى في عمران، وبعد أن أغلق هاتفه قال الرئيس لضيفه السياسي “ليس لي علاقة بما جرى، الجيش منقسم، والوزير ناصر يتصرف خارج إرادتي”. ويضيف أيضا “وأنتم تعرفون أن صالح سلمني العلم الوطني وهو خرقة قماش فقط”. وهي الجملة التي سيرددها هادي قبل وبعد كل عملية سقوط لمؤسسات الدولة بيد مليشيا.
قبل سقوط عمران بأيام قليلة، شكل هادي لجنة رئاسية للصلح بين قطبي الصراع هناك: هما قيادة اللواء 310 ومليشيا الحوثي، وكانت إحدى بنود الاتفاق أن يتم تسليم مقر اللواء إلى الشرطة العسكرية مقابل أن ينسحب اللواء إلى العاصمة، لكن الشرطة العسكرية التي كان يقودها اللواء عوض محمد بن فريد ترددت في تسلم مقر اللواء حتى تم التأكد من سقوطه ومقتل قائده والتمثيل بجثته واختطافها.
ومن مقر الأمن المركزي المتاخم لمقر اللواء 310، كان القصف يتوالى على اللواء، وحين تحركت طائرات حربية من قاعدة الديلمي بصنعاء لقصف المليشيا الحوثية المتمركزة في الأمن المركزي تم توجيهها بالرجوع إلى قواعدها، وهي على وشك تنفيذ المهمة.
أما من وجهها بالعودة فهو الرئيس هادي، وتلك شهادة سمعتها بنفسي من اللواء علي محسن الأحمر مستشار رئيس الجمهورية للدفاع والأمن، مما يعني بوضوح أن تآمرا رسميا قد جرى لإسقاط اللواء 310 الذي مثل درعا حامية للعاصمة في بوابتها الشمالية، وحينها كتبت في الجزيرة نت أن سقوط صنعاء مسألة وقت، لا أكثر.
تداعيات السقوط
كان يوم الثامن من يوليو/تموز 2014 استثنائيا في تاريخ اليمن الحديث، حيث تم وضع حجر الأساس لمشروع هدم الدولة اليمنية، فقد كان السقوط المروع لمحافظة عمران، وفيها أكبر لواء عسكري في اليمن عملا مذهلا وله تداعيات كبيرة، أهمها التسابق الكبيرة على قلب “السيد” عبد الملك الحوثي، حيث شعر الناس بأن يده تلوح في الأفق مؤذنة بافتتاح عصره المصبوغ بالدم والعنف والتجرد من كل قيمة أو مسؤولية.
تسابق إليه الضباط والمسؤولون والمشايخ، وتواطأت معه قيادات حزبية أهمها في الحزب الاشتراكي اليمني، الذي تملكته الرغبة في ضرب حلفاء حرب 1994 ببعضهم، أما صالح وحزبه المؤتمر الشعبي فهما حليفان رئيسيان في الدم والخراب.
كان كبار الضباط يتسابقون على صوت “السيد”، ويسعون لسماعه هاتفيا، وإليه سعى كثير من مشايخ القبائل، وهما صنفان لطالما أوغلا في طعن اليمن من الخلف، فبعض قادة الجيش اليمني هم من يقفون وراء كل عملية نهب للمال العام، وسطو على الأراضي، ومصادرة رواتب الجنود. أما المشايخ فكثير منهم صنع التحالفات المسلحة أو بنى نفسه وقبيلته على حساب مؤسسات الدولة؛ لذلك يسعيان لاسترضاء الحاكم المتوحش الذي يلوح من فوق جبال صعدة.
أما جذر تلك المشكلة الفاضحة فهي انعدام الولاء الوطني، وظهور الولاءات العصبوية كجينات حاكمة للسلوك، فصالح بنى جيشا متشعب القيم والأخلاق، وتركه يفعل ما يشاء ما دام أن ولاءه للقائد، والمشايخ اعتاد الكثير منهم بناء التحالفات المنتجة للمال والقوة.
ولعل هناك أثرا غائرا في نفوس الناس للطريقة التي قتل بها قائد اللواء 310 العميد حميد القشيبي، والذين شعروا برعب الوحشية من المستبد الجديد، فقد تمكنت مليشيا من سحق أقوى لواء عسكري في اليمن، وقتل قائده بـ84 طلقة نارية -بحسب الطبيب الشرعي- ودون أن تحرك الدولة ساكنا، ولم تصدر بيان نعي إلا في اليوم الـ12 لوفاته، وهذا ما جعل كثيرون يهرولون إلى التحالف مع الحوثي واسترضائه ليقينهم بأنه القوة الصاعدة والحاكم الجديد.
والحقيقة التي يجب أن تقال هي أن قوة الحوثي كانت أضعف مما بدت عليه بكثير، فالذي قاتل وخطط ونفذ هو قوات الحرس الجمهوري التابعة لصالح والتي يقودها نجله أحمد، وما الحوثي إلا غطاء وقفاز حديدي استخدمه صالح لتصفية حساباته مع كل من وقف ضده في ثورة 2011.
ولم تسقط عمران في ذلك اليوم بقدر ما سقطت قيمة الدولة وهيبتها، وانكسرت قواتها المسلحة أمام مليشيا كانت قناعا لقوات صالح الإجرامية، وكانت غفلة هادي وضعف خياله قناعا لها، فقد تمكن الحوثي من إقناع هادي بتسليمه سلاحا ومعسكرات من أجل تخليصه من قوى الشمال، ومنذ لحظة سقوط عمران طويت صفحة نظام هادي، وتآكلت قيمة الدولة وهيبتها، وتم تهديد النظام الجمهوري بالشبح الإمامي الكهنوتي.
الانهيار العسكري
كل تداع يهون أمام انهيار المؤسسة العسكرية، فهي المعنية بحماية الدولة ومؤسساتها وحماية أراضيها وسمائها وسيادتها، وبناء مؤسسة معنية بالدفاع عن الوطن على أسس مناطقية وولاءات شخصية يجعلها معرضة للانهيار، أو البيع في لحظة وجود عروض أفضل.
وحين يجد الضباط أحد كبارهم يقتل ويمثل بجثته وتنهار قوته العسكرية الضخمة ويتقدم نحوهم وزير دفاعهم يقول لهم “هذه حرب لا تعنينا، نحن جيش محايد”، بالتأكيد سيشعرون بأنهم الهدف القادم، وعليهم البحث عن جدران أكثر قوة يستظلون تحتها ويحتمون بقوتها، و”الحياد” في لحظات الاعتداء على الجيش هو تواطؤ وخيانة.
أما هيام وزير الدفاع اللواء محمد ناصر أحمد بالمليشيا الحوثية فهي قصة لها أسباب، أهمها: طاعته العمياء لأميركا التي أسرف في زيارتها، واستقبال سفيرها وضباطها في مكتبه بصنعاء، وضعفه أمام تدفق المال الخليجي الراغب في التخلص من أدوات الإخوان المسلمين في اليمن، وكرهه الشديد للقبيلة باعتبارها سندا وحاميا للإخوان.
وحكاية أخرى سترويها الوثائق السرية في قادم السنوات، فهذا رجل جاؤوا به من خلفه.
وفي اللحظة التي كانت مليشيا الحوثي تدك حصون اللواء 310 وتقتل قائده كان الرئيس هادي قد رتب زيارة خارجية، أما وزير دفاعه فكان في أبو ظبي حتى يبقى القادة بلا مرجعية يأخذون منها أوامرهم، ويبقي الفراغ حاكما، والعدم موجها.
لقد انهار شيء اسمه الجيش اليمني، وانهارت معه مؤسسة نهبت قرابة نصف خزينة الدولة طوال خمسين سنة، وسقط ضباط معظمهم كانوا جزءا من مشاكل اليمن، بل كانوا لعنتها الكبرى، حتى أصبحت أسماء ضباط كبار رمزا للفساد والنهب، وذاك ما أراده صالح في تجربة حكمه، حتى يظل هو أشرف الموجودين ومرجعية الجميع، أما محاسبته ضابطه ومسؤوليه الفاسدين فستكون فورية في حال خروجهم عن طاعته.
لقد آن وقت بناء جيش وطني وفق أسس وطنية وعلمية ومعرفية، بعد أن فضح سقوط عمران حقيقة الجيش اليمني، فقد كانت لجنة الوساطة الرئاسية المكونة من 12 ضابطا رفيعا أداة في الجريمة، ومن فوقها وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس الجمهورية بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، جميعهم عملوا في نسق واحد، هو إسقاط لواء عسكري كان حاميا للعاصمة، وسندا للنظام الجمهوري، وذخرا للقوات المسلحة، ولن يكون لسقوطه معنى غير خدمة الحركة الحوثية الطامحة إلى الحكم.