فلسطين.. من أحجار المقاومة إلى صواريخها
تشكل أي مقاومة وطنية مسلحة، ذات قضية عادلة، غصة في حلوق المستعمرين والمحتلين والمستبدين في أي بلد تعاني ويل أولئك؛ لأن الكفاح المسلح الذي تبديه مجاميع الثوار والمجاهدين من أبناء تلك البلدان، يتوارث من رجال إلى رجال، ويتطور من فترة إلى فترة.
ولا يمكن أن يموت أو ينهزم مهما تجبر الطرف الآخر أو تنوعت وسائل قهره وبطشه، فإرادة الشعوب من إرادة الله، ولنا في كفاح الكثير من الأمم خير عبرة للاستئناس به في هذا الشأن، ولعل أكثر الأمثلة وضوحا، كفاح الشعوب العربية ضد قوى الاحتلال الأوروبي التي عمّرت على أرضها عقودا حتى ظنت أنها قد تملكتها تملكا أبديا.
الآن، ونحن نسمع ونرى المواجهات العنيفة بين جيش الاحتلال الصهيوني وبين فصائل مسلحة فلسطينية في غزة، وبرغم الفارق الكبير بين قوة المتواجهَيْن، يخيل للبعض أن الجهد المسلح الذي تبديه فصائل المقاومة الفلسطينية، عمل عبثي إزاء جيش محترف ومنظم يعد أحد أقوى عشرة جيوش في هذا العالم.
تلك النظر تبدو نظرة قاصرة بلهاء خائرة، لا تستقيم مع دروس التاريخ ولا مع الفطرة السليمة التي تؤمن بأن الأوطان إنما تحيا على مذابح أبنائها، وأن قوة الإصرار الذكي تغلب قوة المدافع، وأن عدالة القضية تجعل من مهرها الباهظ محل تنافس الأوراح والمهج الزكية، ولولا كفاح وتضحية هؤلاء الفلسطينيين، خلال أكثر من ستة عقود، لما كان لهم أن يحققوا ما تحقق لهم، وإن كان كما يبدو مكسبا ضئيلا، قياسا مع ثمن نضالهم، لكنّ بداية تحقيق الهدف، دائما ما تبدأ بخطوة واحدة، هذه الخطوة هي الخطوة الأولى، وهي لعمري أجزل وأمضى من هراء الزعامات العربية التي أهدرت الكثير من الجهد والوقت دون أي مكسب.
ليس أمام الفلسطينيين من سبيل إلا سبيل المواجهة المسلحة، والتضحية المستمرة في سبيل هدفهم السامي، استرداد الأرض المغتصبة من قبضة المحتل، وهم على ذلك ماضون، متقدمون، مثيرون للاندهاش، مفرعون، برغم الفارق الكبير، جدا، بين آليات العدو وإمكانياتهم المتواضعة عسكريا، لكن تلك الإمكانيات، مع تواضعها، بدأت تأخذ موقعها على مدارج التقانة.
حين ابتكروا طائرة دون طيار بوسعها حمل صواريخ تقليدية توجه نحو أهداف في المدن المحتلة، وكذا تقدمهم في تطوير صواريخ بأمدية مختلفة عجزت دول النفط العربي عن أن تصنع مسمارا واحدا كتلك المسامير التي تثبت في أبدان تلك الصواريخ أو الطائرات.
الحرب التي تجري بين الجيش الإسرائيلي الذي وصف بـ”أنه لا يقهر” وبين فصائل فلسطينية مجاهدة، لا يبلغ قوام مجموعها كاملة، قوام كتيبة إلى كتيبتين من جيش الاحتلال، ليست حربا تقليدية بين جيشين، يخشى منها الفلسطينيون الانهزام، إنها حرب استنزاف الأضعف للأقوى، حرب هدم معنويات الصهاينة، حرب فرض إرادات سياسية، حرب إثارة الأوراق المتعثرة، حرب تشتيت جهود دولة الاحتلال، حرب إنهاك قدراتها، حرب تعزيز مواقف المفاوض الفلسطيني الذي يعاني الكثير من ضغوط الغرب وخذلان الإخوة.. إنها الحرب المفزغه بالسلاح غير المفزع.
حرب الصواريخ التي يدافع بها الفلسطينيون عن غزة، هي حرب المسافات، حين تكون الأرض غير ممكن المواجهة عليها، لأي سبب كان، وقد كانت هذه الحرب وليدة الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988م، التي ظهرت فيها الصواريخ أبلغ أثرا من حرب المواجهة وتحرك الجنود وآلياتهم العسكرية على الأرض؛ لأنها- على ضآلة تأثيرها مقابل ما تحدثه الطائرات والمدفعية المختلفة- إلا أنها تربك العدو وتروع شعبه المجلوب من كل أصقاع الأرض، بل وتدفعهم إلى العودة من حيث أتوا، وكلما زادت وتيرة تلك الضربات وفاعليتها في تحقيق أهدافها في الأرض المحتلة، فإن فرص السلام وفُرص فرض الإرادة الفلسطينية تقترب أكثر وأكثر من التحقق، أما إذا زادت تقانية تلك الصواريخ لتبلغ ما تتمتع به الصواريخ الذكية التي يصنعها الغرب ويقدمها للكيان الصهيوني، فإن مستقبل هذه الصواريخ ومستقبل قطاع غزة، عسكريا، سيكون مختلفا خلال السنوات العشر القادمة.
ختاما، هذه الحرب ليست آخر الحروب، وليست الحرب التي تجلب بمفردها النصر والأرض المسلوبة، لكنها طريق الكفاح المؤدي إلى الهدف المنشود.. إنها السبيل الصحيح الذي يجب أن يسلك فيه كل عربي ومسلم، على ما فيه من العوائق المتعددة ومن جحافل الخونة والمنافقين، لكن الله غالب على أمره، ما دام هذا الشعب غير عابئ بهراء تلك الجحافل من المخذلين والمندسين والمنهزمين.
“ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين” .
………
*كاتب، وباحث في شئون النزاعات المسلحة