مقالات

لملمة الشتات!

سلمان الحميدي صحفي يمني
سلمان الحميدي
صحفي يمني

لملمة الشتات!
ـــــــــــــــــــــ
شهيتي للكتابة انقبضت. تغيرت نبرة صوتي. جثا السدوم على مزاجيَ الشارد، وحضرت كل المفردات المتعلقة بمقتل صديقي قبل أعوام.
جاء من المدينة ليدرس في الريف، يرتدي الجينز اليابس كما كنا نصفه، ونرتدي القماش الرطب. كان يلعب الكرة باحتراف ومهارة فيسرقنا بتمريراته المُتقنة.
ــ «انتبه، لما تكون نجم تنساني ياموفق».
ــ ينساك الموت ياحلو.

دماج، الحوثي، السلفيون، مقتل موفق.
حضرت كل المفردات المتعلقة بتنيُح صديقي، منذ أيام أغالط نفسي بأشياء لاحصر لها لئلا أدخل بتصادم مع الناس.
أبدو متشتتًا، سأحاول أن أكمل:
مرت السنين المتوسطة كلمح البصر، عاد أدراج المدينة بدبة الآيس كريم التي يطلب الله بها. بقينا نحن في الريف نتسكع في دروب الخواء، نُعاكس الريح ونتغزل بالشمس.

ترك كرة القدم نهائيًا، يمم وجهه شطر دمّاج، ذهب هناك؛ ليطلب الله ويطلب العلم.
غريب هذا السندباد، عاد بعد شهرين، كان قد خلع سروال الجينز اليابس، ارتدي ثوبًا أبيضًا بائن قِصَره، ويحفظ حُزمة من الأحاديث الواردة في الصحيحين.

دماج، الحوثي، السلفيون، مقتل موفق.
تحضرني صورة مقتله، مضرجًا بدمه، داخل ثياب بيضاء في 2011، أحاول أن ألملم شتاتي وأعود إلى السرد.

لقطة من شريط الذكريات نستعيدها معه، يبتسم ويضحك، لحيةً خفيفة نَبتت على جَانبَي وجهه الوضّاء، أنا إلى جواره، يَتضَّوع عطرًا مُنسكبًا من مِسْك الجنة.
يؤمني لصلاة العصر، قبل أن يشرع في تكبيرة الإحرام، أطلق نظره إلى أسفل قدمي:
«ما أسفل الكعبين من الإزار في النار».
كانت فتحة البنطلون تغمر رجلي، لففتها، ومنذ ذلك اليوم وأنا ألف بنطالي في كل صلاة وتُطل بسمة صديقي الراحل.
حدثني عن الفسق، تخلى عن تورم شدقيه، مانحن إلا كائنات ماضغة تلوك القات لتتورم الأشداق. مازحته:
ـ «ذلحين أنا فويسق يا موفق».
ـ «أجمل مافيك أن من يجلس معك يظن أنك معه، أما عن الفسق والإيمان لو حاكمنا الناس بقياس الزمن القديم لوجدناهم كلهم على ضلالة، استر ماستر الله».

ضحكنا سويًا، لقطة جديدة أخرجتها من أنقاض الذاكرة، العراك الضاحك على أعقاب السجائر؛ قَبَرنَا عُلب التبغ الرديئة في الحَيَازِم مازحين، نُفتش عن وهم اللذة بين الأدخنة المتصاعدة للسماء، نطلق الكحات، نشرغ، نسعل، وحين تنتهي العُلبةَ نتعارك على الأعقَاب.
لم نستطع أن نتعلم. لكن موفق قُتل.

دماج، الحوثي، السلفيون، مقتل موفق.
هاأنذا، أربط البداية بالنهاية.
سيارة واحدة تقَلُّنا في الطريق الطويل، أنخت ركائب رحلي في صنعاء، موفق يبتسم لي ويلوح بيده مودعًا، سيتجه إلى صعدة ليتعلم الحديث ويطلب الله.
دلفتُ معهدًا لأتعلم اللغة، وولج موفق دار الحديث بدماج. وانفصلنا.
لم أتعلم شيئاً، بينما حفظ المئات من الأحاديث. دخلت كلية الإعلام بعدها.
كنا سنلتقي ونضحك، كعادته كان سيحوي العالم ويعكس صورة الحياة للجميع رغم التهم التي تحاصره بالغلو.
أَلْفَيْتُنِي غريبًا على أرصفة صنعاء، سبِحتُ في تأمل حال الحياة، فألفيْتُي واقعًا في فَخِّ الفاجعة.
– صديقك موفق قُتل في صعدة، قتلته جماعة الحوثي.
لم أُطل على ابتسامته، لم يتسنّ لي الوقت، لم تسنح لي الظروف أن أراه في تنيُّحه الأبدي، لم أر جثته مُطلقًا، ولا أدري أين رمسه!؟.
لروحك فاتحة الكتاب، وليَ العذر يا صديقي.

دماج، الحوثي، السلفيون، مقتل موفق.
ولم استطع أن أُكمل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى