مقالات

وجهة نظر حول أسباب نشوء الحركة الحوثية [1]

 

[1]

لم تعد الحركة الحوثية (بأبعادها المذهبية والثقافية وتمدداتها العسكرية) وبعد قرابة سبع سنوات على ظهورها الصاخب؛ مجرد طائفة دينية/ مذهبية بالمحددات المعروفة لهذا النمط من التنظيمات البشرية المهتمة بإحياء شعائر دينية وطقوس مذهبية تعرضت للاندثار والإلغاء والحرب! وبالنظر إلى الوضع العام الذي صارت عليه الآن كقوة عسكرية مهيمنة، ولاعب سياسي لم يعد يكتفي بالنشاط في المناطق المعروفة تاريخيا بأنها: زيدية الهوى، وتتشيع صخورها للأئمة الحكام باعتبارهم هم الإسلام، ولا يستقيم ولا يصح إيمان المرء إن لم يؤمن بذلك.. بالنظر لكل ذلك فمن المهم أن نفهم هذه الظاهرة فهما أقرب للصواب في إطار التاريخ اليمني القديم والمعاصر.

لن يكون هدف هذه المقالات مناقشة البناء الفكري/ المذهبي للحركة الحوثية، بل الهدف الأصلي هو تقديم رؤية خاصة للأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدت إلى ظهور الحركة الحوثية كما يروج لها المتعاطفون معها والمنافحون عنها.. ففي رأينا أن هناك تعمدا غير منصف، وإصرارا ممنهجا :سياسيا ومذهبيا يعمل على ترويج أسباب عن نشوء الحركة الحوثية يراد بها تزييف وعي الناس، وتلوينها بصبغة البراءة والاستضعاف، استغلالا لحالة الكراهية الشعبية لنظام الرئيس السابق علي صالح الذي دخل معها في حروب ستة؛ فخلال جولات الحروب في صعدة (2004-2010) وحتى الآن نشطت جهات عديدة، وظهرت دراسات وأوراق عمل، وصدرت تصريحات وأقوال لشخصيات سياسية وعلمية؛ حرصت كلها على تحديد سبب أساسي واحد –إن لم يكن وحيدا- لظهور الحركة الحوثية حصرته بما وصفته بأنه: الظلم الذي وقع على الزيدية، والمذهب الزيدي، ورموز المذهب من الهاشميين من أبنا، البيت النبوي، واستهدف: إقصاء الزيدية من اليمن، وإلغاء المذهب واستبداله بآخر ( الوهابية تحديداً)، والتضييق على الهاشميين وإقصاؤهم في كل مكان.. أو ما يمكن إيجازه في عبارة: (حدوث مظلومية تاريخية للزيدية).. مما كان سببا للتمهيد وتوفير الأرضية لظهور الحركة الحوثية!

فما مصداقية القول إن الحركة الحوثية هي رد فعل مشروع لمظلومية عانى منها الزيدية، والمذهب الزيدي، والهاشميون تحديدا في اليمن؟

وما صحة وجود مظاهر هذه المظلومية كما يروج لها؟ وما حدودها الزمنية؟

وما الأطراف المتآمرة التي شاركت في إنزال هذه المظلومية بهؤلاء المظلومين المستضعفين(!) واستهداف مذهب إسلامي(!) والعمل على اقتلاعه من بيئته التاريخية، وإلغائه من الوجود خدمة لمخططات خارجية؟

هذه تقريبا أبرز الأسئلة التي سنحاول أن نناقش الإجابات الشائعة عنها التي يروج لها من أكثر من طرف وجهة.

[2]

قبل أن نبدأ خلال الأسابيع القادمة مناقشة مدى صحة أو عدم صحة وجود (مظلومية زيدية) في اليمن التي عبرت عنها الأسئلة السابقة، ووضع الأقاويل والاتهامات تحت مجهر النقد والتأمل.. قبل ذلك يستحسن أن نضع بعض الضوابط أو المحددات التي نرجو أن يناقشنا من يريد أو يحاكمنا من يرغب على أساسها، وليس على أساس ما يفرضه علينا من مصطلحات، وبالطبع من حقه أن يرفض ما نفهمه ولكن لا يجوز أن يتهم بواطننا، ويرفع عبارة: (أهل البيت أدرى بما فيه). والمقصود هنا أن هناك مصطلحات وعبارات مذهبية وتاريخية يجب ضبطها أو بيان رؤيتنا لها أولا قبل الدخول في صلب الموضوع، لكيلا تنحرف نقاشاتنا عن صلب الموضوع إلى اتهامات ومكايدات. وهي على النحو التالي:

أولا/ نؤمن أن هناك فرقا جوهريا بين الفكر الزيدي (أو المذهب العقائدي) الذي آمن به الإمام زيد بن علي –رضي الله عنه- وبين المذهب الفكري/ العقائدي للإمام الهادي يحيى بن الحسين في الأصول؛ وأن الإصرار على الانتساب للإمام زيد من قبل هادوية اليمن ليس ملزما لمن لا يقتنع به، ومن ثم فإن انتقاد ورفض الفكر الهادوي، وبغض الظلمة والمتجبرين من الحكام الهادويين وممارساتهم السيئة وجرائمهم، ومظالم دولتهم في حق اليمن واليمنيين (كما هو مسجل في تاريخ اليمن وذائع ومشهور في ذاكرة اليمنيين) لا يعني ألبتة عداءً لأعلام آل البيت النبوي الشريف الأوائل –من لدن الإمام علي بن أبي طالب وحتى الإمام زيد بن علي رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك من تبعهم في الفضل والعلم والتقوى من شتى البقاع ومن أتباع جميع المذاهب- أو يعني رفضا أعمى لمذاهبهم واجتهاداتهم، أو عدم احترامهم وحبهم بحكم قرابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وبحكم الأخوة الإسلامية التي تفرض ذلك.. فنحن نفرق بين هؤلاء الذين عرفهم تاريخ اليمن وبين أولئك الذين تزين بهم تاريخ الإسلام،وكانوا فيه مصابيح هدى وعلم.

وبناء على ما سبق فإن التوصيف الدقيق –في رأينا وكثيرين غيرنا- أن الهادوية ليست هي الزيدية، لكن طالما القوم يصرون على وصف أنفسهم بذلك فلا مانع من استخدام (المصطلح) لكيلا يطغى الخلاف حولها على النقاط الجوهرية الأخرى، مع الانتباه للاحتراز الذي أوردناه عن المفهومين. وهكذا، فكلما ورد مصطلح (الزيدية) هنا فالمقصود به ما يتعلق بالدولة الهادوية وحكامها وفقهائها وهي الدولة التي تأسست 284هـ وسقطت سياسيا عام 1962 (1382هـ). (إلا إذا كان السياق يدل على غير ذلك).

ثانيا/ لكي يمكن فهم ما حدث في إطار تاريخ الدولة الهادوية منذ 284هـ وحتى الآن بطريقة دقيقة في رأينا؛ فينبغي التعاطي مع الأمر بالمستويات الآتية كما نفهمها ونؤمن أنها الطريقة الأقرب للصواب والدقة في توصيف الأمور والأشخاص والأفكار والأحداث:

أ‌- هناك مذهب فقهي أسسه الإمام الهادي يحيى بن الحسين، وتبعه فقهاء كثيرون بعده زادوا فيه أو اختلفوا معه أحيانا حتى صار هناك: 1- رأي أو فقه المذهب، 2- رأي أو فقه الإمام/ الهادي.. فضلا عن 3- رأي أو فقه الإمام زيد. وهذا المذهب المسمى المذهب الزيدي ( الهادوي) هو في الجملة مذهب فقهي (أي يهتم بمسائل العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والحدود إلخ، وهو أشبه بالمذاهب الفقهية الأخرى: الشافعية، والحنفية، والحنبلية والمالكية، وغيرها من المذاهب التي لم تحظ بالانتشار في عموم العالم الإسلامي. وبهذا المعنى فلسنا ملزمين بوضع المذهب الفقهي من حيث الإيمان به في درجة واحدة مع الأصول العقدية المعروفة للمذهب الهادوي ذي البنود الخمسة المعروفة وهي: (التوحيد، العدل، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإمامة).. ونخص بالتحديد: مبدأ الإمامة.

ب‌- أصول المذهب العقائدي الهادوي الخمسة المذكورة سابقا.. منها أربعة ذات مضمون فكري/عقائدي تدخل في إطار الخلاف الجائز الذي لا يستدعي تكفيرا متبادلا من المعارضين والمؤيدين، وقد اتفق الهادوية في بعضها مع المعتزلة المتأخرين.. واقترب الجميع من المذاهب الأخرى.

أما الأصل الخامس في العقيدة الهادوية وهو (الإمامة) وحصرها في البطنين من سلالة علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما. فهذا الأصل هو أساس النظرية السياسية للإمام الهادي، وعليه تأسست الدولة الهادوية عام 284هـ، وارتبطت بها الأحداث، والحروب، والمعارك، وسالت من أجلها الدماء، وأزهقت الأرواح طوال أكثر من ألف عام.

ج- وأخيرا.. فهناك الدولة الهادوية، وهي الإطار السياسي الذي جسد النظرية السياسية الهادوية (للدقة: جسد فقط حصر الإمامة في البطنين، أما المبادىء الأخرى فلم يكن حظها إلا كحظ أمثالها في الدول الأخرى!). وقد تداول على حكمها عشرات الأئمة باسم المذهب.

[3]

وبناء على ما سبق؛ فإنه من المهم من باب الدقة التفريق بين مواقف الناس تجاه هذه المستويات الثلاثة التي ذكرناها.. فرفض الدولة الهادوية لا يعني أبداً رفض المذهب الزيدي /الهادوي الفقهي الذي أشرنا إلى مواصفاته وحدوده، ولا توجد أي علاقة مفروضة بين الجانبين ينبغي الالتزام بها. وبالمثل، لا يلزم الالتزام بالمذهب الفقهي الالتزام بالمذهب العقائدي ذي الخمسة الأصول، تماما كما حدث في عصور أخرى مع المذاهب الأخرى.. فالمعتزلة كانوا أصحاب مذهب عقائدي مشهور ومتين لكنهم في الفقه كانوا في جملتهم أحنافا من أتباع الإمام أبي حنيفة من أئمة أهل السنة والجماعة المخالفين لهم في الأصول، وفي الجانب السياسي لم يكن المعتزلة أصحاب موقف واحد من فكرة الإمامة كما هو الحال عند الشيعة؛ ولم يكونوا على موقف واحد تجاه أحداث التاريخ الإسلامي والجدل والقتال الذي دار حول المستحق للإمامة؛ فمنم من كان مؤيدا لآل البيت ومنهم من كان غير ذلك، بل كان لبعضهم علاقات مع خلفاء من بني أمية مثل مروان بن محمد الذي قيل إنه تتلمذ على يد المعتزلي الجعد بن درهم، ومثل يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي قيل إنه كان متبنيا لبعض مبادىء الاعتزال، وحمل الناس على القول بالقدر، وقرب أصحاب المعتزلي غيلان الدمشقي الذي قتله هشام بن عبد الملك.. كما كانوا أعوانا ومستشارين لعدد من خلفاء بني العباس قبل المأمون وبعده.

وأهل السنة كانوا كذلك على مذاهب فقهية مختلفة كما هو معروف، وتوزعوا في الجانب العقائدي في إطار ثلاثة مذاهب سنية رئيسية هي: مذهب السلف، والأشعرية، والماتريدية.. وفي الجانب السياسي كان لهم مبادىء تتفاوت في مواقفها إلى حد ما تجاه مسائل مثل الإمامة والخروج على الحاكم.

هذا التفريق الذي نراه ضروريا تجاه المستويات الثلاثة: المذهب الفقهي، المذهب العقائدي، والنظرية السياسية؛ سوف يجنبنا الكثير من المشاكل في محاولة تفسير الأحداث التاريخية وتقييمها، ويحصر الخلافات السياسية في إطارها الصحيح بأنها خلافات سياسية أو حول طريقة استحقاق السلطة بعيدا عن إثارة النعرات الطائفية، وحتى لو كان الزيدية وعموم الشيعة يعدون الإمامة من أصول الدين التي يترتب عليها عند جلهم: كفر وإيمان أو فسوق في أخف الأقوال؛ فإن ذلك ليس ملزما للآخرين ممن يمثلون أغلبية المسلمين.

في التطبيق العملي لهذه الفكرة ؛أي التفريق بين المستويات الثلاثة؛ فلن نعجز عن اكتشاف معقوليتها، فالذين ناهضوا الحكام الهادويين في التاريخ المعاصر لليمن لم يكونوا يفعلون ذلك كرها في المذهب الفقهي أو حتى في مسائل: التوحيد والعدل والوعد والوعيد.. والقبائل التي ثارت ضد حكم بيت حميد بمشايخها وعلمائها لم يكونوا يستهدفون المذهب بما فيه مسائل: الضمن وعدم التأمين، وحي على خير العمل.. بل كان المنطلق هو رفض ظلم الأئمة، وسوء سيرتهم مع الرعية، والتطلع إلى حياة إنسانية أفضل. ( لا يمنع من ذلك أن بعض الحساسيات المذهبية التي ولدتها مظالم الحكام الهادويين كان لها دور، لكن ذلك يبقى محصوراً في بيئة معينة في مناطق معينة، كما هي عند الإسماعيليين الذين يجاهرون بأن عداءهم للأئمة كان بسبب اضطهادهم مذهبيا مئات السنين!).

ومن باب أولى فإن الصراعات الدامية بين المتنافسين على الحكم من داخل البيت الهاشمي، والتي عرفها تاريخ الدولة الهادوية من أيام أحفاد الهادي حتى ثورة الثلايا، لا يمكن القول إنها كانت صراعا ضد المذهب الفقهي أو الأصول الخمسة وكرها فيها، أو لإلغاء الزيدية واستبدالها بمذهب آخر.. ويؤكد ذلك أن حركة الأحرار اليمنية (وأيضا الأحزاب اليسارية: القومية والشيوعية) ضد الإمامة أو النظرية السياسية للهادوية ضمت في عضويتها كثيرين من العلماء، والمثقفين، والضباط، والشخصيات البارزة من الهاشميين أنفسهم.. فهل كان هؤلاء كلهم أيضا متآمرين على المذهب والزيدية، ويريدون إحلال الوهابية بدلا منها؟

سأختم حلقة هذا الأسبوع بمثالين؛ فمعايشة العامة في المناطق الموصوفة تاريخيا بأنها زيدية لا تدل على أن هؤلاء في جملتهم فهموا المذهب كما فهمه الهادي والأئمة الفقهاء خاصة بأنه شيء واحد لا فرق بين المذهب الفقهي، والأصول الخمسة، والنظرية السياسية، ولا نظن أن عامة المقاتلين الذين قاتلوا مع الإمام عبد الله بن حمزة ضد المطرفية كانوا يفهمون هذا البعد الثلاثي للزيدية.. وفي كل الأحوال؛ صارت الزيدية في بيئات عديدة مجرد هوية ينتمي إليها الناس، كما تنتمي الشعوب أحيانا إلى مذاهب وأديان بما تربت عليه من الولاء الباطني غير القائم على الدراسة والعلم، وبهذا يمكننا أن نفهم كثيرين ممن يعلنون معارضتهم للأئمة والحوثية ويقولون: أنا زيدي وأرفض الأئمة والحوثيين.. إلخ.

هذا أولا.. أما ثانيا؛ فقد لاحظت أن الذين يتحدثون دائما – من الفقهاء والعامة- على أنه لا فرق بين المذهبين: الشافعي والزيدي/ الهادوي يعتمدون في المقارنة والاستدلال على عدم وجود فوارق على تشابه المستوى المذهبي الفقهي، وعلى محدودية الاختلافات وهامشيتها؛ مثل المسائل الفقهية الشائعة (نحن نسربل وهم يضمون) أو التأمين أو زيادة عبارة: حي على خير العمل في الأذان.. وهذا الكلام صحيح إذا فهمناه في إطار المذهبين الفقهين، لكنه ليس صحيحا على المستويين الآخرين: أي النظرية السياسية والمذهب العقائدي أو الأصول الخمسة، فهنا تكمن خلافات كبيرة لا يفهمها العامة عادة، وسنجد أن أبرز وأشرس المنافحين عن الإمامة هم من أبناء البيت الهاشمي أو أصحاب المصلحة المباشرة في السلطة.

وللعلامة الوالد/ محمد بن إسماعيل العمراني مقالة قديمة نشرها في بداية الخمسينيات في مجلة (رسالة الإسلام) بعنوان (الزيدية في اليمن) فند فيها القول الشائع بشذوذ المذهب الزيدي عن المذاهب الأخرى، وأكد براءته مما يقال عنه.. لكن الملاحظ أن أدلة العلامة العمراني كلها لإثبات عدم اختلاف الزيدية عن مذاهب السنة اقتصرت أو ركزت على تشابه الجوانب الفقهية، وقواعد أصول الفقه، ولم تتطرق إلى الجانبين الآخرين أي النظرية السياسية والأصول الخمسة حيث مكمن الاختلاف.. وهو كلام صحيح، ويؤكد ما قلناه عن ضرورة التفريق بين المستويات الثلاثة للفكر الهادوي حتى تستقيم الأمور، ولكي نقطع الطريق على من يريد خلط الأوراق من أي جهة للتلبيس على الناس من حيث عدم التفريق بين ما هو علمي وما هو سياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى