قراءة تحليلية لمقال: “السياسة والقيم” بقلم: د. محمد بن موسى العامري
الرشادبرس- تقرير
في زمن يشهد تصدعاً أخلاقياً حاداً في أروقة السياسة المعاصرة، يأتي هذا المقال العميق للدكتور محمد بن موسى العامري”حفظه الله” كإطلالة مشرقة تستعيد من خلالها السياسة جوهرها الإنساني والقيمي، وتقدمها كأداة بناء لا هدم، وشراكة لا صراعاً، ومسؤولية لا سلطة مجردة.
المقال يعيد وصل السياسة بدورها الفطري الذي ينسجم مع رسالة الإسلام الحضارية، ويؤكد أنّ انحرافها عن هذا المسار إنما هو طارئ لا أصيل، واستثناء لا قاعدة.
منهجية متقنة:
تميّز المقال بمنهجية متقنة في البناء والطرح، فجمع بين البعد التأصيلي والاستحضار التاريخي، والتحليل السلوكي الواقعي، وقدّم بنية ثلاثية متوازنة:
1. مقدمة تأسيسية توضح الفارق الجوهري بين السياسة النزيهة المستندة إلى القيم، والسياسة المنحرفة التي تنفصل عن أي ضوابط أخلاقية.
2. عرضٌ جوهريٌ لقيم ثلاث تمثل الأساس في أي ممارسة سياسية مسؤولة: المصداقية، الأمانة، العدل.
3. خاتمة ثرية تحمل رؤية إصلاحية متزنة، وتعيد التوازن بين التمسك بالقيم، ومراعاة ما تقتضيه السياسة من مرونة منضبطة.
استدعاء العمق التاريخي والشرعي:
ينطلق المقال من تعريف رصين للسياسة، منسوب لابن خلدون: “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم”، وهو تعريف ليس فقط فقهيًا، بل فلسفيًا أيضًا، يعيد للسياسة بعدها الأخلاقي ويضعها ضمن دائرة التكليف الإلهي.
وما يلفت في مقال الدكتور” العامري” هو ربطه بين ممارسة السياسة ومقام النبوة، باعتبار الأنبياء هم القادة الأولون الذين جمعوا بين الهداية والإدارة، بين إصلاح الدنيا وعمارة الآخرة، وأخذ ذلك نحو السياق اليمني بواقعية ووعي نقدي.
السياسة السلبية:
ينتقل المقال بنضج إلى الحديث عن الوجه القبيح من السياسة، حينما تنفصل عن ضمير القيم وتستسلم لمنهج الغش والخداع.
وقدّم نموذجاً حياً ممثلاً في جماعة الحوثي، والتي تُمارس السياسة بوصفها وسيلة قهر وإقصاء وتزييف، عبر أدوات غير مشروعة: التقية، الكذب، التضليل الإعلامي، التحريض، فبركة التهم، وتدمير الوعي الجمعي.
هذا النقد لم يكن عاطفياً، بل مؤصلاً، حيث أبرز الكاتب التناقض بين تلك الممارسات وبين جوهر الإسلام، ما يجعل من مقاومة هذا النهج دفاعاً عن الدين، والقيم، والإنسان.
رؤية متوازنة بين القيم والسياسة:
يقول الشيخ الاستاذ – عبدالرحمن الاعذل – ان الدكتور العامري”حفظه الله “قدم في مقاله معالجة فكرية رصينة للعلاقة بين السياسة والقيم، استطاع من خلالها أن يدمج بين التأصيل الشرعي والتحليل الواقعي، موضحًا أن القيم ليست عائقًا أمام السياسة، بل أساسٌ لضبطها وتوجيهها.
ويضيف: ان وضع الكاتب القيم في موضعها الصحيح داخل الميدان السياسي، مبينًا أنها ليست ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة لضمان العدالة ومكافحة الفساد، كما أشار إلى أن غياب المرجعية الأخلاقية في العمل السياسي يؤدي إلى اختلالات خطيرة على مستوى الدولة والمجتمع.
ويؤكد الشيخ- الأعذل -ان المقال اعتمد على قراءة متزنة للواقع السياسي العربي والإسلامي، داعيًا إلى إصلاح السلوك السياسي من خلال مأسسة القيم وتفعيلها في التشريعات والسياسات، وليس عبر الشعارات فقط.
ويختم:ان المقال يمثل دعوة صادقة لإعادة بناء السياسة على أسس أخلاقية، تعيد الثقة بين الشعوب والحكومات، وتصنع واقعًا أكثر عدلاً واستقرارًا.
القيم المحورية في السياسة – بناء أخلاقي متين:
1. قيمة المصداقية:
الصدق هو حجر الزاوية في الثقة السياسية. فقدان المصداقية يجعل من السياسي مشروع فشل مبكر، حتى وإن حقق مكاسب مؤقتة.
الكاتب أجاد في عرض مفارقة بين نموذجين:
سياسيين يبيعون المواقف بالكذب والنفاق.
ونخبة وطنية بقيت وفية للصدق فنالت احترام الشعب وتقديره.
وهنا يتبدى التذكير بأن العمل السياسي الشريف ليس سذاجة، بل شجاعة، وأن سياسة “الكذب الأبيض” أو “الاحتيال الذكي” لا تبني أوطاناً، بل تهدمها حجراً بعد حجر.
2. قيمة الأمانة:
السياسة أمانة، والراعي مسؤول، ولا مجال للعب أو التلاعب في شؤون الشعوب. وقد أورد الكاتب الحديث النبوي الجامع:
“ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة.”
هذا التذكير لم يكن وعظيًا فقط، بل مُسقطًا على واقع ملموس:
المحاباة
تغييب الكفاءات
الإفساد الوظيفي
تسليم الدولة إلى الطفيليات
كلها صور حديثة من غش الراعي، وغياب الأمانة في السياسة.
3. قيمة العدل:
العدل ليس شعاراً للخطاب السياسي، بل مبدأ يُختبر في الفعل والسلوك. وقد أبدع المقال في تحليل ظاهرة الفجور في الخصومة السياسية، وهي من أخطر ما يضرب وحدة المجتمعات.
فالسياسيون الذين يُغيبون الإنصاف، وينتهجون التصفية بدلاً من المنافسة الشريفة، يسهمون مباشرة في تفكيك النسيج الاجتماعي، وقتل الأمل في الإصلاح.
-التوازن بين الثابت والمتغير – واقعية فقهية
بعيدًا عن المثالية الجافة، أبدى المقال وعياً عميقاً بضرورة المرونة السياسية، عندما تكون المصلحة العامة مرهونة بتقدير دقيق:
تغليب المصلحة الكبرى
جواز التورية
مشروعية المجاملة دون مداهنة
لكنه يشترط لذلك العلم والبصيرة، ويحذر من أن تتحول الرخص إلى قواعد، وأن تُلبس المصالح الحزبية ثوب الشرع زوراً.
هذا الموقف الوسطي بين الانغلاق والميوعة، يعبر عن نضج معرفي، وفهم واقعي للميدان السياسي.
دعوة للإصلاح من الداخل:
لا يكتفي المقال بالنقد، بل يقدم رؤية عملية:
العودة إلى مدرسة القيم.
إصلاح الذات السياسية.
بناء خطاب جامع لا مفرق.
الدعوة إلى سياسة نزيهة تبني، لا سياسة مهترئة تهدم.
وهنا يبرز المقال كـ”وثيقة قيمية” تصلح أن تكون نواةً لدورات تدريب سياسي أو وثيقة مرجعية للعمل الحزبي النظيف.
توصيات مستخلصة:
1. دمج القيم في المناهج التكوينية للأحزاب والمؤسسات السياسية.
2. إنشاء مؤسسات رقابة أخلاقية في الحياة العامة، كمجلس أعلى للضمير الوطني.
3. إعادة تربية الجمهور على احترام السياسة النظيفة وتكريم رموزها.
4. تعزيز الشراكة السياسية القائمة على العدل لا على الولاء الضيق.
5. خلق خطاب سياسي يربط بين الوطنية والدين، وبين الحرية والقيم.
إشادة واجبة:
مقال د. محمد بن موسى العامري، “حفظه الله “ليس مجرد رأي عابر، بل يمثل رؤية متكاملة تعيد للسياسة هيبتها الأخلاقية ودورها الإصلاحي. وهو صوت نقي في عالم سياسي ملوث، ودعوة للرجوع إلى “فقه السياسة النظيفة”، حيث لا تناقض بين الحنكة والصدق، ولا تعارض بين القيادة والخُلق.
المقال يستحق أن يُعمم، ويُدرّس، ويُناقش في الدواوين السياسية، ومقاعد الجامعات، ومنصات الإعلام، لأنه يتحدث عن السياسة كما يجب أن تكون، لا كما استُسهلت أن تكون.