مقالات

إضاءات في مواجهة النعرات

د/محمد بن موسى العامري*
أولاً :- ليس هناك شئ أضر على المجتمعات من إحياء النعرات ، بمختلف الشعارات ، والمسميات ، وأخطرها ضرراً ، وأشدها فتكاً ، ما تلبس بالدين ، وانتسب إليه ، لما في ذلك من التقول على الله بغير علم ، وفتنة الناس في دينهم ودفع الجهال إلى مسالك التشكيك ، والإلحاد ، والزندقة ، والصد عن سبيل الله ، بترويج العصبيات ، والنعرات ، ونسبتها إلى الدين الحق القائم على العدل بتشريعاته ومعالم تسويته بين الناس وتحفيزهم على التنافس والسير إلى الله بأعمالهم دون الإتكال على ألوانهم وقومياتهم وأنسابهم فكل ذلك مما لا كسب لهم فيه ولا حيلة لهم في زيادته ونقصانه ، ولا تغييره .

ثانياً :- لقد انحرف فئام من الناس حين أخذوا من إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى الإشفاق والترفق بأهل بيته ( أذكركم الله في أهل بيتي )ونحو ذلك من التوجيهات أن ذلك يعني منحاً للإمتيازات ، والإختصاصات ، لارفقاً بالأهل والقرابات ، فبنيت على ذلك عقائد وأحكام ، وتشعبت طوائف ، كلها بمعزل عن الفهم الذي تلقاه من شهد تلك التوجيهات ، من أصحابه وهم أهل الفصاحة والبيان والأجدر بمعرفة أسباب الورود والسياقات .

ثالثاً :- جاء الرسول صلى الله عليه نبياً مرسلاً وهادياً ومعلماً ، وماحياً لكل أنواع الجهالات ، والعصبيات ، فكان أكثر الناس نفوراً منه وصداً عنه قومه ، وبعض أقاربه ، وهم الأكثر معرفة به وصدقه وأمانته ، وماترك من سبيل – عليه الصلاة والسلام – يدعو إلى النعرات والعصبيات ، إلا وأغلق أبوابها ( إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ ) رواه مسلم ، وفي التعالي بالأنساب والأجداد كذلك ( إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أذهبَ عنكم عُبَّيَّةِ الجاهليةِ وفخرَها بالآباءِ ، الناسُ بنو آدمَ ، وآدمُ من ترابٍ ، مؤمنٌ تقيٌّ ، وفاجرٌ شقيٌّ ، لَيَنتهينَّ أقوامٌ يفتخرون برجالٍ إنما هم فحمُ جهنَّمَ ، أو ليكوننَّ أهونَ على اللهِ من الجُعلانِ ؛ التي تدفعُ النَّتنَ بأنفِها ) حديث حسن رواه الترمذي وغيره وفي ازدراء الأجناس والألوان قال لأبي ذر حينما قال لرجل يابن السوداء ( إنك امرؤ فيك جاهليه ) رواه البخاري ومسلم ، وفي قطع التعلق بالأنساب قال محذراً قرابته وأهل بيته ( يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله اعمل فإني لا أغني عنك من الله شيئا، لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ) رواه مسلم( ومن بطأ به عمله لم بسرع به نسبه ) ومنع عن أهل بيته الصدقة دفعاً لتهمة الإستئثار بالمال العام كما يرى ذلك بعض العلماء وفي الأنكحة والكفاءات حث على اختيار الدين والخلق ، وهكذا جملة واسعة من التشريعات ، والمحكمات ، المبنية على أساس القسط والعدل بمعزل عن العصبيات والنعرات ،

رابعاً :- حينما حصل انحراف في نهاية العهد الراشدي وتجاوز أناس إلى الشطط في الخصومات بسبب آثار الحروب والنزاعات هيئ الله من يعيد الأمة إلى مسارها الصحيح فكانت خاتمة خطبة الجمعة التي قضت على الشطط والبغي ، بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز ( إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ ….. الآية ) في مواجهة ما حصل من بغي وفجور ، من أناس تجاه بعض أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وبخاصة علي رضي الله عنه والحسن والحسين ونحوهم .
ولكي لا يتكرر البغي والعدوان كان لابد من التنصيص على فضائل ذوي القربى ممن شهد لهم رسول الله ، كما شهد لكثير من الصحابة وخصهم بمناقب لإيمانهم ولفضلهم وسابقتهم لا لمجرد أنسابهم وقرابتهم ، وهذا التنصيص الذي دون في الكتب وأثر عن بعض السلف أو تناولته كتب التراث كان الغرض منه في المقام الأول وضع الأمور في نصابها ودفع التعدي والظلم الذي نال بعضهم ، لا منحهم شارات واختصاصات ، وامتيازات تحولت لدى فئات الغلو المنحرفة عن السبيل إلى أطماع سياسية ومالية ، وبنيت على ذلك عقائد وطوائف أشهرت السيف والقتل واستباحت الحرمات لمن لم يكن موالياً وتابعاً لها .
وبالنظر والتأمل في تاريخ الفرق التي فارقت خط الإسلام الأصيل يتجلى مدى الشقاق والإنحراف الذي ولجت منه طوائف الغلاة من الإسماعيلية ، والباطنية بمختلف مسمياتها والرفض والتشيع بمختلف فئاته المغالية ، عبر بوابة أهل البيت والغلو فيهم وما حصل في اليمن ، منذ قدوم الهادي يحيى بن الحسين الرسي وحصره للحكم في البطنين ( ذرية الحسن والحسين ) يأتي في هذا السياق ، المتوارث إلى يومنا هذا من خلال نابتة الحوثيين المارقة ، وضمن سردية تاريخية لقصص المظلومية المفبركة والمفتعلة لتمرير أجندات لا تتصل بجوهر الاسلام ، ولابمصلحة الأوطان بقدر ما هي توظيف للعنصريات ، والنعرات ، في خدمة ، الطوائف والسلالات ، وتبعية رخيصة للقوى الأجنبية .

خامساً :-

واذا كانت النعرات والعصبيات والسلاليات قد خلفت لأبناء اليمن كل هذه النكبات، والمعاناة ، منذ بزوغها واستفحال أمرها فإن دواءها لن يكون في أخواتها من النعرات، والعصبيات ، فالنجاسات لاتغسل بالنجاسات، والجهالات لا تمحوها الجهالات بل تزيدها لهيباً واشتعالات، ناهيك عن ما يصاحبها من الإساءات ، والتعديات ، لأقوام لاجريرة لهم ، سوى الإنتساب إلى هذه القبيلة ، أو تلك الفصيلة ، ولاتزر وازرة وزر أخرى ، ولعل قائلاً يقول وما الضير في أن ندفع أو نغسل نجاسة كبرى بأصغر منها وأن ندفع جهالة عظمى بأقل منها أو سيئة بمثلها ، وعصبية بأقل منها ، وعلى حد قول الشاعر الجاهلي :- ألا لايجهلن أحد علينا ……فنجهل فوق جهل الجاهلينا .
والاخر :-
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم …
ومن لا يظلم الناس يظلم .
والجواب عن مثل هذا التنظير يتلخص في ثلاث نقاط :-
الأولى :- الأصل في المسلم- وبخاصة حامل العلم الشرعي – الإعتصام بالمسلك القرآني والهدي النبوي في دحض الباطل بالحق والجهل بالعلم والظلم بالعدل والضلال بالهدى ، والنعرات ، والعصبيات ، بأخوة الإسلام ورابطة الإيمان ، وفي ذلك غنية عن الدخول في متاهات النعرات والظلمات وراحة للنفس من التجاذبات والمناكفات وفقاً لإرشادات القرآن الكريم .
( بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ )
( وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ ۚ إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا وزهق الباطل )
( ٱللَّهُ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ)
الثانية :- قد تقرر أن الأمة حينما يتغشاها الإنحراف يبعث الله لها من يجدد دينها والتجديد لا يكون إلا بإحياء معالم الدين وتنقيته من الشوائب التي علقت به لا بإدخال المزيد من الشوائب ، والمحدثات فيه ، وهذا الأمر معلوم ومتكرر في جميع محطات التاريخ الاسلامي ، والمصلحون المجددون في سائر المنعرجات والكبوات يعيدون الأمة إلى أصالتها ، ونصاعة هويتها ، بإزالة ما علق بها من أدران العصبيات ، والجاهليات ، وما قد يظنه بعض الناس من ضرورة حث العامة وحملهم ، على مواجهة عدوهم في الأزمات وحالات الإضطرار ، دون فرزها ، وتنقيتها ، فذاك قد يفهم في غير تأصيل وتحرير هُويتها العقدية والفكرية والثقافية التي يجب أن تبقى بعيدة عن التشويش والتلبيس والتسييس ، والغبش في المفاهيم ، والتصورات في جانبها العلمي والتأصيلي .

الثالثة :- ماسبق لا يتنافى مع دعوة المجتمع اليمني إلى الإحتشاد العام لعموم مكوناته وأطيافه ، في مواجهة ودفع نعرات وعنصريات مليشيا عدوانية تعمل جاهدة على قتله ودفن إرادته .
وباعتبار أن هذه المليشيات الحوثيرانية ، قد جلبت الشرور بحذافيرها واستهدفت الدين والمعتقد الصحيح ، والعروبة ، والوطنية ، والجمهورية ، والحرية ، والتعددية السياسية، والثقافية ، والقبيلة اليمنية ، والتمدن والتعليم ، والعمران ، ومعايش الناس ، وكرامتهم ، وأقواتهم وأرزاقهم ، والإقليم وأذى الجيران ، فللجميع الحق في دفعها كل من زاويته دون التكبيل أو الحد من السهام التي يجب أن توجه لرفع هذه الجائحة التي حلت بالجميع من قبل هذه العصابة الإرهابية .
واليمنيون اليوم- بلاشك – في حالة استثنائية بسبب عدوان هذه الطائفة ومن يساندها ، ومن المفهوم أن يواجه الشعب هذه الفاقرة كل من أسهم كنانته ، وبحسب منطلقاته ، والقدر المتفق عليه هنا يتلخص في صوابية الدفع لا الدافع في جميع ماهو عليه فلكلٍ وجهته ، وكل يعمل على شاكلته .

اللهم ألهمنا رشدنا

*رئيس الهيئة العليا لاتحاد الرشاد اليمني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى