مقالات

الإسلام ثم الحرية ثم الوطن

 

 

 

 

أبوبكر الدوسي

على مشارف مكة يقف النبي صلى الله عليه وسلم ذو الثلاثة والخمسين عاما دامعاً يقول: والله إنك لأحب البقاع إلى الله وإلي؛ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
لقد كان مشهدا يدمي القلوب، فها هو أحق الناس بهذا البلدة الطيبة يغادرها باحثا عن وطن آخر.
وقبلها يأذن صلى الله عليه وسلم لثلة من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، معللا ذلك بمعادلة العدالة الخالدة “إن فيها ملكاً لا يظلم عنده احد” إنها غاية ما يبحث عنه اليوم كل عربي حيث غدت أوطانهم مرتعا لكل أنواع القهر والظلم، ولكن لا حبشة اليوم تفتح أحضانها.
وهكذا يترتب لنا المشهد بسلاسة، الإسلام أولاً، وفي سبيله تخلَّو عن كل شيء،، ثم تركوا الوطن بحثا عن الحرية،، ثم بدأ الني صلى الله عليه وسلم في إيجاد وطن بديل في المدينة المنورة على صاحبها أفضل السلام وأتم التسليم.
وهنا أكتب ما قد يراه البعض ردة وطنية.. ما الوطن بدون إسلام ولا حرية.. إلا تراب لا قيمة له.. فلا وطن أغلى من مكة.. ولا جوار أفضل من الكعبة وقد تركها النبي صلى الله عليه وسلم باحثا عن وطن يعبد الله فيه بحرية.
إن هذه ليست دعوة للتخلي عن الوطن، فقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً، وملأها حرية وعدلاً كما ملأتها قريش عبودية وظلماً، وقد تجلى ذلك في رمزية موقفه صلى الله عليه وسلم حين أمر بلالاً الحبشي دون غيره أن يصعد على الكعبة _أشرف بقاع الأرض حتى عند قريش_ كي تعلم قريش أنها أمام حقبة جديدة كليا حتى في معايير الاختيار.
إن الحقيقة التي قد تغيب عن الكثير أن الشعب إذا رضي بسلب حريته، فسيسلب منه غدا دينه رضي أم أبى، ثم سيصبح غريبا في وطنه الذي قد يسلب عنه أيضا ليجد نفسه رقما في شتات الملاجئ.
وحدها الحرية التي يمكنك مقاومة سلبها، ولك حرية الاختيار بين التفريط فيها من عدمه، فإن خسرتها فلن تُفاوَض على شيء تٌسْلَبَه بعد ذلك، ولهذا حين طلبت الشعوب العربية حريتها، اجتمع عليها الجن والإنس، وداس الغرب كل القيم، والتقم حجراً وهو يرى بروفات يأجوج ومأجوج في كل شبر عربي، من وحشية لم يرها العالم سوى في أفلام الرعب لآكلي لحوم البشر، لأن الحرية التي كان يطلبها الغرب للشعوب العربية؛ هي حرية الاختيار بين عبودتين المال أو الشهوة، أما الحرية بمعناها البشري الخالد فهي حرام على دول العالم الثالث.
في الثاني من ديسمبر عام 49 أُلغي الرق ووقِّعت اتفاقية منع الاتجار بالبشر، لكنه كان بصدق تاريخ انتهاء العبودية المنظمة المحدودة وبدء حقبة العبودية الشاملة في مختلف قوالبها.
لقد تحول العالم إلى طبقات من السيادة والعبودية وكلٌّ سيد مَنْ تحته، فالبطش للأدنى، والانقياد للأعلى، ومن حاول التمرد على هذا القانون البهيمي ذهب أدراج الرياح، ومن هنا جاءت قروض البنك الدولي، وهِبات الدول المانحة، والقروض المشروطة، والفوائد المضاعفة، وتستمر سلسلة الاستعباد  التي لا تستثني أحداً؛ وما الأقساط البنكية إلا إحدى صورها المصغرة.
أكتب هذا ونحن نعيش اليوم في وطننا العربي أسوأ أنواع العبودية على مر التأريخ، إنها عبودية هرمية في قمتها دول الفيتو الخمس وفي أسفلها وغد مليشياوي يحمل في يدٍ هراوة وفي الأخرى لغما يزرعه في بئر القرية التي تسقي ما تبقى من كهولٍ ينتحبون قهراً على أطفالهم الذي قضوا على يد قناصته.
أكتب هذا وعلى شاشة التلفاز تقرير يحكي قصة جثة طفل طافية على شط بحيرة ألقتها الأمواج التي عصفت بقارب أصفر كان يحمل خمسين مهاجراً عربيا فروا من جحيم بلدانهم، فأطفأ ماء البحر لهيب شوقهم للنجاة، وأطفأ أفئدتهم أيضاً، إنها تجربة لا تختلف كثيراً عن تجربة سابقة في بحر القلزم عام 615م أبطالها اثنا عشر صحابياً إلا أنها كتب لها النجاح.
أكتب هذا وقد كثرت الطرق أمام الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها، وباتوا بين مناد بالمدنية أولاً وآخر يصرخ: الحل في العلمانية، ودعوا الدين للمساجد والكنائس، وثالث الليبرالية، ورابع القومية، وخامس وسادس.. وألف.. حتى تشتت بنو قومي، رغم أن ما يحلمون به دول آمنة يعشون فيها بحرية، ويحيون بكرامة.. إنها أقل من أن تحتاج كل تلك المعادلات.
ختاماً:
لقد كانت هجرته صلى الله عليه وسلم بدينه، باحثا عن الحرية، ليبنى بعد ذلك وطن الإسلام الجديد؛ دستورا مختصراً في ترتيب الأولويات، فالحاجة اليوم ماسة لإيقاظ مشاعر الحرية، وزرع قيمها في ذاكرة الجيل، فإن حصل عليها فلا شيء بعد ذلك صعب المنال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى