الاحتجاج السياسي والفقه الأحول
معلوم أن الاستبداد جرثومة كل فساد بتعبير الكواكبي، والظلم مؤذن بزوال العمران كما يقول ابن خلدون، والإسلام يريد أحرارا من عبودية أي شيء غير الله عز وجل، والمستبد مستعبد..
ومعلوم كذلك أن الثقافة نتاج العلوم والتجارب والبيئة، والفقه الإسلامي كعلم شكل أساسا من أسس الثقافة الإسلامية، والفقهاء تنازعتهم نظرتان لمبادئ الطغيان السياسي.. إحداهما قوامها العدل، وعندما فشلت من وجهة نظرهم حلت الثانية وهي نظرية الأمن.. وعلى أساسها ظل المسلمون يعيشون آلاف السنوات في كنف مقولات من قبيل: “سلطان غشوم خير من فتنة تدوم”..
فهل نستطيع القول بأن برنارد لويس كان على حق عندما قال إن الثقافة الإسلامية بكل مفرداتها لم تؤسس لمكافحة الطغيان؟ خاصة مع وجود ما اعتبره البعض حالة من التدريب على الخنوع مارسه فقهاء مسلمون تجاه من بيده القوة، كما كان يقول المودودي..
الغريب أن تلك الحالة أفرزت أسئلة ربما اعتبر البعض أن الواقع قد قفز عليها بعد ثورات الربيع العربي، لكن الانتكاسة الفقهية الرسمية وغير الرسمية والتي صاحبت انتكاسة تلك الثورات أعادة إفرازها من جديد.
أسئلة من قبيل هل المظاهرات حرام أم حلال؟ نذهب للانتخابات أم نقاطع ؟ نضرب عن الطعام أم أن ذلك انتحارا؟ ما حدود الانتماء الوطني وما معاييره؟ ومن صاحب الحق في هبته أو نزعه؟
هذه الأسئلة وغيرها تولدت عنها مدرستان إحداهما تبيح بالدليل والأخرى تحرم بالدليل .. إسلام ضد إسلام.. هكذا يرى عموم الناس، وفي كلتا الحالتين القرار مبرر بمجموعة من المصطلحات من أمثال: مراعاة مصلحة الأمة، أو الانتماء الوطني، أو الحفاظ على الأمن والأمان المقدم على كل شيء لدى كثيرين!!!
ولذا فأنا أعتقد أن الجهد الفقهي والأصولي اليوم ينبغي أن يكون معنيا بالأساس بالنظر في هذه المتاهة.. ينبغي أن يجيب على أسئلة من نوعية: كيف أقام المسلمون في صدارة دعوتهم حكما شوريا مدنيا ثم تحول إلى ملك سلطوي استبدادي؟ وهل محاولات التغيير ضد هكذا أنظمة حرام بالإطلاق؟ وهل كل ناصح معارض؟ وما الفرق بين المعارضة والخروج، اقصد ما الشعرة التي يمكن أن توصف بعدها الحركة المعارضة بالخروج، ذاك المصطلح سيء السمعة في التاريخ الإسلامي؟! أم أن السؤال بتلك الصيغة ينبغي أن يتغير لدراسة كل حالة على حدة، بحسبان الأحكام الثابتة لا تصلح لكل فتاوى الواقعة ذاتها، فما يمكن قوله في مصر لا يصلح للحالة السورية مثلا؟!!!!!
وهل حركات التغيير بغاة يستحقون القتل؟ ولماذا يغض فقهاء السلطان كما يسميهم البعض النظر عن سياقات بعض النصوص والوقائع ويحاولون استلالها من تراث مليء بما يفسرها ويضعها في موضعها الصحيح؟ وما الحكمة في الزج بنصوص الخروج المسلح في مقام المعارضة السلمية ؟؟ أليس هناك فرق بين نصح الحاكم ومطالبته بالشورى وبين الخروج عليه بالسلاح؟
والسؤال الذي أراه هو الأهم ومفتاح كل ما سبق: هل يجوز بالأساس إطلاق أسئلة تفصيلية كهذه؟ أم أن الحديث في المقاصد العليا للشريعة كفيل بأن يجعل كل ما سبق بدهيات لا ينبغي البداية منها بل ينبغي تجاوزها خدمة لتلك المقاصد وإعلاء لغاياتها العليا؟!!!
يساورني شك في أن كثيرين من هؤلاء قد قرأوا الثلاث والعشرين سنة وبضعة الأشهر التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم كمشرع وأمين على الوحي، ورئيس لدولة، وقائد لجيش، ومصلح اجتماعي، وغيرها من أدواره المتعددة..
نعم يساورني شك.. فالقراءة الأولى ستجيب على أسئلة تأسيسية مثل: هل كان صلى الله عليه وسلم يقبل الاحتجاج أو المعارضة لقراراته؟، وهل أصل القرآن الكريم وهو الوحي الإلهي لهذا الفعل الاحتجاجي أساسا؟، وما المستويات التي أقرها القرآن ومارسها النبي صلى الله عليه وسلم؟..
اعتقادي أن هذه الأسئلة التأسيسية كما قلت قادرة بكل بساطة على أن تكون منطلقا للإجابة عن كل ما سبقها من أسئلة تفريعية، لكن الفكر الإسلامي والفقه أحد مكوناته قد تنازعته في موضوع الاحتجاج هذا مدرستان، كان ظهورهما مصاحبا لظهور الفرق الإسلامية، والمدرستان هما: مدرسة الثورة أو الخروج، ومدرسة الصبر كما سميت في التاريخ الإسلامي..
مدرسة الثورة أبطالها الخوارج وبعض الشيعة، ومدرسة الصبر يمثل أهل السنة القطب الرئيسي لها مع أولئك الشيعة الذي ينتظرون الغائب..
وفي التاريخ الإسلامي تجارب يمكن أن نطلق عليها ثورات.. مرت عليها قرون وقرون، ومازالت أصداؤها تتردد.. ثورة الحسين، والزبير، وابن الأشعث التي سميت بثورة الفقهاء.. مازال الكثيرون يستلهمون منها..
لكن كانت ثورة ابن الأشعث تحديدا، والتي سميت “فتنة” فيما بعد، لحظة فارقة في تشكل النظرية السياسية السنية، حيث استقرّ في وعي فقهاء أهل السنة أن المعارضة المسلحة ليست وسيلة صحيحة لمواجهة الظلم وتفشي المنكرات الدينية والدنيوية.
وبدا وكأن الإحباط يعم جمهرة الفقهاء السنيين الذين رفعوا شعار الأمن قبل العدل، وقال ابن العربي “قتل الحسين بشرع جده”.. لكن بالمواجهة أثار البعض سؤالا في رده على تلك المدرسة قائلا: إذا كنتم متفقين على أن مصادرة البيت الأموي للنموذج الراشدي كان شذوذا عن التجربة والمعيار النبوي لماذا إذن تتخذون رد فعل كهذا؟!
السجال لم يتوقف منذ ذلك الحين.. خاصة حينما يرفع مكرسوا الاستبداد راية الأمن، راية الاستقرار.. راية “للي نعرفه أحسن من للي منعرفوش”، ومنذ ثورة الحسين رضي الله عنه، وتلك المقارنة السمجة بينه وبين ما فعله الحسن رضي الله عنه مع معاوية لم تتوقف..
مقارنة تسقط السياقات والموازنات، تسقط اطراف المعادلة من عينها.. أعني هنا معاية كاتب الوحي.. هي فقط تُصَدِّرُ النتائج ومستتبعاتها، فتصدر معها جبنا يزرع كجينات داخل العقلية السنية المسلمة لم يشذ عنها في تاريخ فقهائنا غير ندرة نادرة بدو وكأنهم نقطة بيضاء في جسد ثور أسود.