مقالات

الحركة السياسية في القرآن (الزمان والمكان) وتأثيره على الدول صعودًا وانتهاءً

الرشادبرس_ مقالات

 ✍🏽/مرتضى الهبوب

الحمدلله الذي جعل الزمانَ دليلاً على تقلُّب الأمم، والمكانَ شاهِدا على صعود الدول وانهيارها. فما أعجب حركة التاريخ! تسير بقدر مُقدَّر، وسُنَّة لا تتبدَّل، تُسقِطُ الجبابرة وترفع المستضعفين، وتُذكِّرُنا بأنَّ العِزَّة لله جميعًا. فالقرآن الكريم، هذا الكتاب المُعجِز، لم يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة الأمم إلا وأحاط بها، فجعل من قصص السابقين عِبرةً، ومن حركة السياسة دَرسًا، ومن تقلُّب الزمان والمكان منهجًا لفهم سنن التغيير.

لقد جاء القرآنُ بموسوعة سياسية حية، تُحدِّثنا عن صراع الحق والباطل، وعن ديناميكية الحُكم، وعن عوامل البناء والهدم في الدول. فها هو ذا فرعونُ يَطغى في الأرضِ فيُمسِك بمقاليدِ السلطةِ قرونًا، حتى إذا جاءَ أجلُه المُعلَنُ في الزمانِ والمكانِ، “فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى” (النازعات: 25). وها هي سبأُ، دولةُ الرفاهيةِ والجبروت، تسقطُ بسُقوطِ أخلاقِها، “فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ” (سبأ: 16). فما أشبهَ الليلةَ بالبارحة!

وإذا كان ابن خلدون قد أسهب في تحليلِ “العصبية” و”دولة الترف”، فإنَّ القرآن سبقَه بقرون ليضع الأسس الشرعيةَ والتاريخية لفهم حركة السياسة. فالدول لا تنهار فجأةً، بل تمرّ بمراحل من “الاستدراج”، كما قال تعالى: “وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ” (الأعراف: 182). وهي لا تصعدُ إلا بقيم العدل والإيمان، كما في قصةِ ذي القرنين: “إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا” (الكهف: 84).

وفي هذا المقال، سنسبر أغوار النصوصِ القرآنيةِ التي تُؤسِّس لفلسفة التاريخ السياسي، ونربط بين الزمانِ والمكانِ كعاملَين حاسمَين في صيرورة الدول. فكما أنَّ “مكةَ” كانت مركز الانطلاق للدولة النبوية، و”المدينةَ” منطلق الحضارة الإسلامية، فإن كل أمة لا تفهمْ جغرافيةَ قوتِها وزمانَ تحوُّلِها تكون كالتي “نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا” (النحل: 92). وهكذا يسخر القران ويستفيد من الديناميكية التي تزخر به آياته في بناء عجيب بين اللفظ والمعنى ،وبين الزمان والمكان ،وبين الحضارة وبناتها وسقوط الأمم وأسبابها ،ليكون القران مشرحة لجثة التاريخ زمانا ومكانا وانسانا .

فهلَّا نبدأ رحلة قرآنية نقرأ فيها سقوط روما وفارسَ في سورة “الروم”، وحال فرعون وتلك الحضارة الفرعونية، ونرى صعودَ المسلمين في “وعدِ الله”؟ هلَّا نتأمَّل كيف يجمع القرآن بين “الزمنِ” كقوةٍ ضاغطةٍ (“وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ” – الأعراف: 34)، و”المكانِ” كمسرحٍ للأحداثِ (“وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا” – الإسراء: 16)؟

هذه أسئلة تُجيب عنها السطور القادمة، لتكشفَ أنَّ القرآن ليس كتاب عبادة فحسب، بل هو دستور حركة التاريخ، وخريطةُ صعودِ الأممِ وسقوطِها. فالدولُ – في الميزانِ القرآني – لا تُقاس بحدودِها، بل بقربِها من “السُّننِ الإلهية”، ولا تُقدَّر بقوتِها المادية، بل بصدقِها في تبني “سُننَ التغيير”. حيثُ الحكمة تُستخرَج من آيةٍ، والعبرة تُستلهم من سورة، والتاريخ يُعاد صنعتُه بإرادة المؤمنين!

في الحلقة القادمة نواصل الحلقة الثانية من المقال حيث سيجزأ هذا المقال إلى حلقات ،فالكلام اذا كان مجزاء كان سهل القراءة ،عظيم الفائدة ، يشتاق القارئ للبقية ،وتأتي البقية ندية.

والسلام عليكم ورحمة الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى