مقالات

الطريق إلى مكة

بقلم / د. محمد جميح
شاهد الصحافي اليهودي النمساوي ليوبولد فايس في القدس مجموعة من المسلمين يقومون بحركات يقرأون أثناءها بعضاً من القرآن، وعرف أن تلك هي صلاة المسلمين، وحاول الاستفسار عن دور الجسد في الصلاة التي يفترض أن تكون عملاً قلبياً خالصاً، فسأل الإمام عن ذلك، وجاءه الرد الذي سجله في كتابه «الطريق إلى مكة» في قوله: «بأي وسيلة أخرى تعتقد أننا يمكن أن نعبد الله؟ ألم يخلق الروح والجسد معاً؟ وبما أنه خلقنا جسداً وروحاً ألا يجب أن نصلي بالجسد والروح؟» في إشارة إلى ضرورة فهم الشعائر الحسية في الإسلام مرتبطة بمحتوياتها الروحية.
ومع الوقت تعمقت علاقة فايس بالإسلام فأعلن إسلامه سنة 1926، ليتحول الصحافي اليهودي ليوبولد فايس إلى المفكر المسلم محمد أسد الذي أصدر عام 1954 كتابه: «في الطريق إلى مكة» وفي ظاهر العنوان يبدو أسد مسجلاً رحلته الجسدية إلى مكة، وفي جوهر الكتاب يسجل رحلته الروحية إلى الله، على طريق مكة، طريق الإسلام.
الكتاب ـ إذن ـ ليس رحلة حج بمعناه الشعائري وحسب، ولكنه رحلة روحية وفكرية وأخلاقية لصاحب سيرة ذاتية انتقل من دين إلى دين ومن فلسفة لأخرى، ومن جغرافيا إلى غيرها، في «حج» متجدد إلى الله، كما جاء في كتاب محمد أسد الذي تُعَد تجربته واحدة من تجارب أخرى كثيرة خاضها علماء ومفكرون وفلاسفة وفنانون وسياسيون غربيون خاضوا تجارب مماثلة، ومنهم الدبلوماسي الألماني فيلفريد هوفمان الذي أسلم ليصبح المفكر المسلم مراد هوفمان الذي ألف كتاباً بالعنوان ذاته «الطريق إلى مكة» تعرض فيه للمعاني العميقة لرحلة الحج في الإسلام، مشيراً إليها بأنها تجربة «ولادة لكل معنى، ولادة جديدة لمسلم جديد».
وكما فعل أسد سجل هوفمان في كتابه «الطريق إلى مكة» طرفاً من سيرته الذاتية، وتأثر كثيراً بموقف إسعاف زوجته الحامل التي كانت تنزف، عندما أسعفها سائق جزائري مسلم، لم يكتفِ بذلك، بل تبرع لها بدمه في لحظة كانت العصابات الفرنسية ـ حسب المؤلف ـ تقطع الطريق أمام وصول سيارة الإسعاف، الأمر الذي جعل هوفمان يعكف على دراسة القرآن لفهم أسباب صمود هذا الشعب الذي يواصل نضالاته رغم كل الكوارث التي أوقعها به المستعمر، متمسكاً بقيمه الإنسانية التي لم تجعله الحرب يفقدها، وهي الأسباب التي جعلت عمر المختار يرفض عرض محمد أسد للخروج إلى مصر بعد أن أيقن بأن الموت هو نهايته، مرددا: «إنا لله وإنا إليه راجعون» حسب رواية أسد في كتابه المذكور أعلاه.
في كتابي أسد وهوفمان يصبح الطريق إلى مكة هو الطريق إلى الإسلام، ويغدو الحج توجهاً جسدياً وروحياً إلى الله، وبما أن الإنسان جسد وروح، فلا معنى لقول بعض الفرق إن الحج يمكن أن يكون روحياً قلبياً دون الرحيل الجسدي إلى مكة، كما أنه لا معنى للتفسير السطحي الاستشرافي للحج باعتباره مجرد حركات طقوسية، أشبه ما تكون بشعائر الوثنيين، إذ يصعب فك الإحالات الروحية للحج عن شعائره الجسدية من طواف وسعي ووقوف بالمشاعر المقدسة، لما لذلك من معنى عميق ينفتح على دلالة «رحلة الروح إلى الله» في موازاة معنى ظاهري ينفتح على دلالات «رحلة الجسد إلى مكة» ضمن عبادة واحدة لا ينفك محتواها الروحي عن شعائرها الجسدية، حيث يصبح الدين تهويمات فلسفية نظرية إذا فصلناه عن شعائره التعبدية الجسدية، كما يتحول إلى طقوس جسدية جامدة إذا فصلناه عن إحالاته الروحية.
وهنا، فإن ملاحظات كثير من خصوم الإسلام حول «وثنية شعائر الحج الإسلامية» تغدو لا معنى لها، حيث يحتاج المخلوق إلى أن تتجسد معالم الطريق إلى الخالق أمامه عندما لا يتجسد الله ذاته، كما يحتاج الإنسان إلى أن تتجسد معالم طريق الشيطان له عندما يحتجب الشيطان عن العين، وهذا يقتضي أداء الحاج للشعائر التي ترسم له معالم الطريقين، والتي تنطوي على دلالات رمزية بعيدة، غفل عنها المستشرقون أو حاولوا إغفالها عن قصد.
وهنا لا يغدو الطواف مجرد أشواط حول بناء من الأحجار، ولكنه دوران روحي حول القيم الخالدة التي ارتكز عليها هذا البناء وشُيّد من أجلها، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن السعي بين جبلي الصفا والمروة اللذين جسّدا ـ على المستوى الظاهري ـ حاجة الجسد إلى الماء، كما مثَّلا ـ على المستوى الرمزي ـ حاجة الروح إلى الهداية، عندما كانت هاجر أم إسماعيل تجري بين الجبلين، بحثاً عن ماء لوليدها ولها، قبل أن تتفجر «زمزم» من تحت أقدام الرضيع، في قصة تحمل إحالات إيمانية عميقة، تتمثل في أنه في الوقت الذي نذهب فيه بعيداً في الأخذ بالأسباب فإن «مُسبّب الأسباب» يدهشنا برزق يتفجر، لسبب قد لا يخطر لنا على بال، كما حدث لأم إسماعيل، التي تمر على وجدان الحاج مشاهد سرديتها الدالة في سعيها بين الصفا والمروة، لحظة سعي هذا الحاج بين الماضي والحاضر أو بين حاجات الروح ومتطلبات الجسد.
ويمكن مقاربة بقية الشعائر الدينية في الحج بهذا المفهوم الذي يجعل المعنى القريب سبيلاً للوصول للمعنى البعيد، ويجعل الطريق إلى مكة سبيلاً إلى الله، كما يجعل الحج برمته رحلة مستمرة مدى الحياة إلى خالق الحياة ومبدعها، ناهيك بالمعاني الأخرى التي تتجسد في رحلة الحج من شعور بالمساواة وانعدام الفوارق المادية واللونية والعرقية والقومية والثقافية، ومن تجلي قيم الوحدة والانصهار الروحي في بوتقة المعاني الإنسانية الخالدة، كما نرى في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمرات بمنى، وغيرها من المناسك.
ويمكن النظر إلى سطحية «النظرة الوثنية لمناسك الحج» من خلال تصور تلك النظرة للأضحية التي يرى فيها «اللادينيون» طقساً وثنياً يقدم للإله، ناسين أنهم إذ يتعاملون مع «شعيرة دينية» فلا بد لهم من أن يأخذوا بعين الاعتبار التفسير الديني لهذه الشعيرة، وهو تفسير يقوم على الفائدة المادية والروحية للإنسان من وراء هذه الشعيرة، وليس الاستفادة الإلهية من إراقة دم الأضاحي، حيث جاء في النص القرآني عن تلك الأضحية أنه «لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم» في تلخيص بديع للبعدين المادي والروحي للحج وللإسلام برمته، إذ ينتفع الجسد من لحوم الأضاحي، وتستفيد الروح من «التقوى» التي تعد أرقى ما يمكن أن تصل إليه هذه الروح في علاقتها بالله.
إن الرؤية اللادينية اقتصرت على الدماء المسالة التي رأت أنها تقدم للإله، لكنها لم تدرك أن القرآن نفسه ينفي أن تكون هذه الدماء قدمت للإله، لسبب بسيط وهو انتفاء حاجة الله إليها، والصواب أنها قدمت لإطعام الفقراء، ولكن لمزيد من الحث على تقديمها نُظر إلى من يقدمها للفقراء المحتاجين لكل شيء كمن يقدمها لله الغني عن كل شيء، وفي هذا ضرب من التكريم المقصود للحاج والحض على القيام بمناسك الحج.
يمكن أن يقال الشيء ذاته عن «تقبيل الحجر الأسود» الذي نظر إليه كطقس وثني من طرف المستشرقين الذين غضَّ الكثير منهم النظر عن إشعال الشموع في الكنائس لتماثيل من أحجار للمسيح والعذراء والقديسين، ليتحدث هؤلاء المستشرقون عن «وثنية تقبيل الحجر الأسود» ناسين أن المحب في لحظة شعورية معينة يقبل صورة حبيبته الغائبة أو يضم بشغف رسالتها إليه، وأنه قد يحتفظ بقطعة من ملابسها، دون أن يعني ذلك أنه يُقبِّل ألواناً مطبوعة على خلفية بلاستيكية، أو مداداً منسكباً على ورق، أو أنه يحتفظ بمجرد خرقة من القماش، قدر ما يعني هذا أن المحب يعيش لحظة قرب روحي يُختصَر فيها الزمان والمكان ليجد المحب نفسه في حضرة الحبيب، يُقبِّل كل شيء ويتعلق بأي شيء يذكره بحبيبه، دون أن يقع ذلك المحب في وهم إسقاط الحواجز بين الحبيب الذي أرسل الرسالة والرسالة التي يُقبلها.
واليوم يؤكد خبراء الصحة النفسية وبناء القدرات والتنمية البشرية على أن الوضع الجسدي مرتبط بالحالة النفسية، في انعكاس واضح لارتباط حركة الروح بحركة الجسد، وهو ما يعني ضرورة إعمال الجسد في الشعائر الدينية، حيث لا معنى لمَنْسَك دون شعيرة جسدية، ولا معنى لمعراج الروح دون رحلة الجسد.
ولأن فهم الحج يمكن أن يُعَد مدخلاً لفهم الإسلام كله بدأ الدبلوماسي والمفكر مراد هوفمان كتابه «الطريق إلى مكة» بفصل عن هذا الركن، مستفيضاً في شرح جماليات وأبعاد الالتقاء بالمكان ومعانقة المعاني الرمزية الكامنة في لقاء الجسد بالمكان الذي شهد ميلاد الإسلام، متحدثاً بأبعاد تجريدية عن التداعيات الروحية والنفسية لركن الحج الذي تُجسِّد فيه رحلةُ الجسد إلى مكة سعيَ الروح إلى الله، كما ذكر سابقاً.
وقد ورد في القرآن الكريم نص بالغ الدلالة على البعد الرمزي للحج، يتمثل في الآية: «وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير» حيث تلخص الآية البعد المادي للحج المتمثل في المنافع، كما تحيل على البعد الرمزي المنفتح على ذكر الله، وما لذلك من أثر روحي كبير، في رحلة تمثل صعوداً إلى الأعلى يشير إليه النص «يأتين من كل فج عميق» الذي يحيل إلى الارتقاء من الأسفل إلى الأعلى، ضمن رحلة الإنسان الروحية المتجددة إلى الله العلي العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى