العقد الثلاث
بقلم /د . محمد بن موسى العامري *
تجاوز العُقَد الثلاث التاريخية المعاصرة، في المشهد اليمني ،ومعالجة آثارها وتناسي جراحاتها ، مسؤلية أخلاقية ووطنية ، تحمل في طياتها آفاقاً مستقبلية لغدٍ مشرقٍ ويمن جديد خالٍ من الأوجاع المزمنة، والعاهات التي أعاقت نهضته وعافيته ، وجعلته متأخراً عن مقومات البناء والتنمية أسوة بمحيطه الإقليمي لعقودٍ من الزمن .
وليس في الدعوة إلى تجاوز العُقد الثلاث ونسيانها ، ما يتنافى مع أهمية الاستفادة من أحداث الماضي لأخذ الدروس والعبر خشية إعادة انتاج المآسي و تكرارها ، وبغية التخفف من أعبائها ، فالمقصد يتجلى في تصالح الشعب اليمني بكل مكوناته وأطيافه وقواه السياسية والإجتماعية ، وتعاضده لإنقاذ اليمن من كارثته الكبرى المتمثلة في تمرد مليشيا الحوثي الإرهابية المدعومة من إيران .
ولدينا ثلاث من العقد المؤثرة ، في تاريخنا اليمني الحديث توجب فريضة الوقت ، التوقف عندها بغرض الوصول إلى أنجع السبل لمعالجاتها والتعافي من تصدعاتها وانقساماتها كضرورة لإقامة دولة عادلة ينعم الجميع بظلالها ومنها :-
الأولى :- أحداث 13 يناير 86 19م .
أحداث ال 13 من يناير عام 86 م في ما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كانت مأساوية ، دموية ، ومفصلية ، بين رفاق الحزب الحاكم يومها ، في الشطر الجنوبي من الوطن وذهب ضحيتها الآلاف وخلفت تحولات كبرى في المسار الإجتماعي ، والسياسي، وأورثت أوجاعاً جهوية وقبلية لا تزال آثارها تتجدد بصور مختلفة .
و هذه الأحداث العميقة – ذات الجروح الغائرة – تتطلب العمل بمسؤلية على تجاوزها ، ولملمة آثارها وعدم استصحابها فضلاً عن تغذيتها ، وبخاصة في وقتنا الراهن لأن مهندسيها وأقطابها ما بين قاضٍ نحبه أو باقٍ لم يعد ذا تأثير في المشهد ، وآخرون اعترفوا بخطاياهم ومن تاب توبة نصوحاً تاب الله عليه .
1- تبدأ المعالجة الحقيقية من الإعتراف والإقرار بما حصل من تجاوزات كارثية ، ويمكن تحويل ذلك الملف إلى معالجات واستحقاقات لاحقة لجبر الضرر ، بصورة عادلة ، حال استقرار الدولة وتعافيها من واقعها السياسي والإقتصادي المتدهور
2- والأهم من ذلك هو التأسيس لتحقيق شراكة عادلة بين أبناء اليمن عموماً و المحافظات الجنوبيه على وجه الخصوص في رسم مستقبل المحافظات الجنوبية ضمن خارطة اليمن الاتحادي الكبير يستوي في ذلك شرق الجنوب وغربه ، ويتحتم الحد من أية مسارات قد تفضي إلى تهميش جهة أو رقعة جغرافية حتى لا تعاد دورات من الصراعات الماضوية بشعارات ومشاريع جديدة .
3- لم يعد بوسع أحد اليوم أن يمنّي نفسه بالقيادة الشمولية ، سواء على المستوى الوطني أو المحلي بأدوات الإستئثار والإقصاء الجهوية أو الحزبية أو القبلية ، ظناً منه إمكانية الوصول إلى مبتغاه ، ومن رام ذلك أو حاول فقد أخطأ الطريق ، واحتسى السم في ذاك العسل وإن زيّن له ذلك لأسباب فرضتها ظروف استثنائية ، أو دفعت بها جهات إلى هذه الحيثية .
الثانية :- أحداث حرب عام 94 19 م .
وآفة هذه المحطة تكمن في نتائجها التي تولد منها تعميق سلطة مركزية ، بشراكة مختلة ، في الثروة والسلطة أفضت الى تداعيات ومنغصات لاتزال آثارها حاضرة في المشهد اليمني ، رغم محاولات عدة للمعالجة كمؤتمر الحوار الوطني ، ومؤتمر الرياض لإعلان نقل السلطة ، وغيرها.
وبغض النظر عن الطرف الأكثر تسبباً في ما حصل في حرب 94 م ، فذلك أمر متروك للمؤرخين إلا أن ما تلا ذلك من ممارسات الإقصاء والتهميش ، من قبل السلطة الحاكمة قد تسبب في معاناة حقوقية و سياسية واجتماعية كان لها أبرز التعقيدات ،والتصدعات ، التي أسهمت في تسلل المشروع المليشاوي الحوثي السلالي مستفيداً من حالتي الاستقطاب والتشظي بين جناحي السلطة والمعارضة التي عصفت بالبلاد وزرعت فيها بذور الشقاق والمكايدات .
ولتجاوز هذه العقدة يتطلب الأمر من الجهات المتصلة بهذه الإحداث :-
1- الإعتراف بنتائجها الكارثية التي خلفت تشققات مريرة في الصف الوطني وعوامل اختلال زعزعة الثقة في العمل الجبهوي المشترك على المستوى الوطني وكان لذلك عواقبه السيئة في صناعة الحروب التي أشعلتها مليشيا الحوثي الإرهابية مستفيدة من حالة الإنسداد بين فرقاء وشركاء العمل السياسي.
2- البحث عن ضمانات موثوقة ، لقيام شراكة حقيقية عادلة والإتفاق على صيغة مرضية لشكل الدولة الإتحادية للدفع بمسيرة النضال الوطني لإنقاذ اليمن من حالته الراهنة ، وعدم الإكتفاء بمجرد التطمينات و المسكنات التي تبدو ، غير مجدية ، أو براغماتية ، يمكن التخلي عنها في لحظةٍ ما .
الثالثة :- أحداث الربيع العربي 2011م
أما تداعيات ما عرف بثورة الشباب والربيع العربي 2011م فهي جديرة بالتوقف عندها طويلاً ودراسة آثارها ونتائجها ، ومن المؤكد أن يتدافع الناس هذا الحدث المفصلي ، ويعود كل طرف باللائمة على الآخر – بعد المآلات الكارثية – والمقام هنا ليس لتقييم هذه المرحلة بقدر ما هو دعوة إلى تجاوز إخفاقاتها الظاهرة في مناحي الحياة المختلفة ، وليس مطلوباً من كل طرف أن يسلم للطرف الآخر بصوابية موقفه لعدم الحاجة لفتح ملفات شائكة وثغرات ، وجدليات تعيقنا عن مسار البناء وترميم الجبهة الداخلية وقطعاً لتوظيف الخصومات ، واستثمارها من جهات كيدية ، تتغذى على زراعة الفتن و الصراعات وتقوم بإشعال الحرائق ليظل الجميع في دوامة التشظيات ، خدمة لأطماع ” الولي الفقيه ” وأتباعه .
وقد تصاعد في الآونة الأخيرة شعور الجميع بمفاسد وإخفاقات هذه المحطة التاريخية ، لمآلاتها المعتمة وإن تحاشى أكثرهم الإقرار بضلوعه في أيّة آثار ترتبت عليها لأن كل طرف لديه من المعطيات والمبررات ما يتمسك به لصوابية موقفه ، ولديه من السرديات ما يلوذ بها .
وبيت القصيد هنا يكمن في :
1- مدى القيام ، والإلتزام بالمسؤلية الدينية والوطنية والعمل بشجاعة على تجاوز هذه العقدة والتخلص من عوائقها ،وتضميد جراحاتها بعيداً عن التأثيرات الشعبويه والشعارات العاطفية ، وذلك يستدعي كثيراً من التسامي على المستوى القيمي والأخلاقي ويتطلب قيادات استثنائية مترفعة عن الصغائر ولديها من الشجاعة و المسؤلية ، ما يحفزها لتغليب المصالح الكبرى على مصالحها الخاصة أو الفئوية والحزبية ، كما أن من ضرورة ذلك الانعتاق من قيود التخادمات والمسارات غير الوطنية ، ويمكن الإشارة هنا إلى ثلاث نقاط مهمة لتجاوز هذه العقدة :-
1- الإقرار من الجميع بأن هناك حماقات ارتكبت في معالجة هذه الأحداث كان يمكن تلافيها بانتهاج سياسة حكيمة والعمل بشكل أفضل لحل معضلات الفساد والتدهور الإقتصادي وتوريث الحكم والاستئثار بالسلطة ، بعيداً عن محاكاة بلدان أخرى .
2- إعادة بناء جسور الثقة وردم هوة الشقاق التي تولدت لدى القيادات الوطنية الجمهورية من جراء هذه الأحداث وبخاصة بعدما سخرت آفاتها ومثالبها لصالح قوى التمرد الحوثي الطائفي الكهنوتي ، والعمل على لملمة الصفوف التي تصدعت ، وضبط القنوات والمنابر الإعلامية لخدمة المصالح الوطنية الكبرى ، وترك التراشقات الإعلامية ، والمناسبات المتعلقة بإنعاش هذه المشادات، والإكتفاء بالمناسبات الوطنية الجامعة .
3-إزالة مظاهر التشظي – وبخاصة – في المؤسسات العسكرية والأمنية والإعلامية ، وحشد الطاقات لاستعادة اليمن الجمهوري من مخالب الإمامة ، بنسختها الحوثية البغيضة ، وتفعيل بقية المؤسسات الدستورية كمجلسي النواب والشورى والإلتزام بجميع العهود والمواثيق والأدبيات التي تؤسس لمسارات البقاء على تماسك مؤسسات الدولة .
ختامًا:
الحديث عن تجاوز العُقَد والمحطات التاريخية المؤلمة ليس أمرًا ثانويًا، وليس علاجه في تناسيه أو الإعراض عنه؛ فالإهمال وإن بدا وجيهًا لأول وهلة، إلا أن تركه دون معالجة جادة يُولّد معضلات وآفات تراكمية تنمو ثم تنفجر في لحظة مخاضها.
كما أن التجارب البشرية قد تكون ملهمة للخروج من ذلك، برؤية وطنية تضمد الجراح. ولدينا شعوب أنهكتها الصراعات، ثم نهضت وتجاوزت مآسيها، وسنّت قوانين وتشريعات تحول دون تكرارها، كما فعل الأوروبيون رغم تبايناتهم الدينية والعرقية .
ولدينا كعرب ومسلمين من الإرث ما يهدينا إلى تجاوز ذلك، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}. وفي التاريخ الإسلامي، ما بعد الخلافة الراشدة، حصل تجاوز للصراعات كما في “عام الجماعة”، بعد حروب وفتن كبيرة.
وفي تاريخنا المعاصر، تُعدّ تجربة رواندا نموذجًا ملهمًا، فقد تحولت من بلد محطم إلى واحدة من أسرع الدول نموًا، بفضل مبادئ وضعتها قيادتها، من بينها المصالحة الشاملة، ومحو الذكريات البشعة المرتبطة بالمذابح ، وتثقيف الأجيال، وتحقيق العدالة.
ولدينا من “الحكمة اليمانية”، متى صدقت النوايا وحَسُن العمل، ما يمكننا من تجاوز هذه العُقَد في وقت قياسي، ويقولون متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريباً .
والله من وراء القصد.
*رئيس الهيئة العليا لإتحاد الرشاد اليمني