العلماء والفتن
بسام الشجاع
سيبقى الجدل واسعاً في النظر الى العلماء ومستمرا بين الافراط والتفريط فهناك من ينظر للعالم على أنه ملك منزل من السماء وهناك من ينظر إليه على أنه شيطان رجيم، وفي الحالتين هم يخرجونه عن إنسانيته فهو بشر يخطئ ويصيب وهكذا كان الخالق سبحانه يربي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله في غير ما آية (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي(.
ولهذا تقرر نفي العصمة عن العلماء ولكنه يبقى انهم احق بالهدايه ومعرفة حكم الشرع من كل من خالفهم ولن يكون مخالفيهم اولى بالحق منهم وكما هو الحال فقد اعتادت المجالس اليمنية أن الكل فيها يناقش والكل يحلل ويشارك في الحديث وفي كل شيئ وفي جميع المجالات، وعندما كنا نتناقش في أحد المجالس عن الاوضاع وما آلت اليه البلدان اليوم خصوصاً العربية فأثار فضولي أحد المشاركين عندما أرجع أسباب المشكلة الى العلماء ويعني بذلك علماء الشريعة وهذا ما جعلني أتذكر سؤال وجه لي في 9/9/2014م بالفضائية اليمنية ببرنامج “شؤون البلد” وهو ما هو دور العلماء في ظل هذه الاوضاع التي تعيشها البلد.؟
طبعاً وفي مثل هكذا ظروف يصعب الاجابة على هذا السؤال دون ذكر توطئة ومقدمة يوضح فيها ملابسات القضية، فالعلماء موجودون بل إن بقاء خيرية هذه الامة الذي أخبر عنها الخالق جل في علاه بقوله ( كنتم خير أمة أخرجت للناس( وبما أن، السياق، له دور كبير في فهم النص فإننا نجد عند مواصلة القراءة للآية أنه بين سبب الخيرية بوظيفة العلماء وهي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعليه فانه لا يخلو زمان من قائل بالحق وأمر بالمعروف وناهي عن المنكر ولكن مع اختلاف المُكَنةِ في تبليغ الحق، وبرأيي أن هناك عدة عوامل مشتركة أدت الى تهميش دور العلماء وليس الى غيابه لأنه بالحقيقة موجود ولكن هناك تهميش متعمد وهي كالتالي:
* نظرت العامة للعلماء:
العلماء وحدهم من يرون الفتنة وهي مقبلة فيحذرون الناس منها ويعلمونهم سبل الوقاية والتعامل معها والجاهلون يرونها وهي مدبرة بعد أن تنزل عليهم بكلكلها فتطحنهم وتمزقهم تمزيقا، وفي هذا الوقت أيضاً يبرز دور العلماء عندما يشب لهيب الحروب العبثية ويستهان بالدماء وكذلك الحروب النفسية والاعلامية والحروب الاقتصادية ويصيب الناس الخوف ويسيطر عليهم القلق ويشعرون بالوحشة، يتصدر العلماء الموقف بالوعظ والاصلاح ولم الشمل وتضميد الجراح حتى يذهب روع الناس، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: كنا إذا ضاقت بنا الأرض، ضاقت علينا أنفسنا، وساءت بنا الظنون، نذهب إليه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك عنا .
ولاشك أننا اليوم نعاني من التجهيل المتعمد الذي يغزو الشعوب ويفتك بها حيث صار له دوراً بارزاً في تهميش العلماء والمفكرين واصبحنا نجد كثيراً ممن رفعوا عن أنفسهم أمية القراءة والكتابة فقط وهم الغالبية ويمثلون الحاضنة الشعبية التي تلتف وراء العلماء كما قد كان في عهد سلطان العلماء العز بن عبدالسلام ، غير أن هؤلاء سيظلون كريشة في مهب الريح ولا يمكن أن نصفهم الا بالقشة التي تتقاذفها الامواج يمنة ويسرة وهم دائماً كفتهم ترجح لمصلحة الأقوى، ولاشك أننا اليوم نعيش مرحلة إستثنائية يستضعف فيها أهل الحق وفي مقدمتهم العلماء.
وفي المقابل فكما أن الجهل يعمل على تقويض دور العلماء فانه يقوم بتغذية عكسية للأنظمة البوليسية وهذا ما نجحت به أنظمة القمع العربية لذلك لا نستغرب، إذا لمسنا ضعفاً في المؤسسات التعليمية والبحثية وقوة في الشرط والمعسكرات والسجون والمعدات القتالية قال الأديب الفرنسي فيكتور هوجو «من يفتح باب مدرسة يغلق باب سجن”.
* أنظمة الحكم استطاعة:
الانظمة الوظيفية بما تملك من إعلام وثروة ومكانة أن تجعل من انظمتها أمراً مقدساً لا يمكن المساس به أو التقدم عليه وسعت جاهدة لان تبقى هذه الذهنية مرسومة في عقول الشعوب، ولم يتوقف الامر عند ذلك حتى صار الحاكم هو البوصلة التي يقاس بها التوجه الصحيح لمسار الامة وهذا ما يجعلهم يشترطون للإشادة بالعلماء والثناء عليهم ومدحهم هو مدى موافقتهم للحاكم فاذا ما خالفوه بأمر أو قضية صبوا جام غضبهم عليهم وأقذعوهم بالسب والشتم دون ورع ولاروية، وزحزحة العلماء واحتلال مكانتهم يعد نجاحا بالنسبة للحاكم حيث وهو أنه أصبح يضيف الى سلطانه مهمة عظيمة وهي الدعوة إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة و المجادلة بالتي هي أحسن طبعا وهذه الدعوة على طريقته هو وبما يتناسب مع الحفاظ على ملكه وسلطانه، اذاً الحاكم اليوم هو من يعض ومن يشرع ومن يأمر وينهى ، ومن طريف ما يذكر عن العلامة القاضي محمد بن اسماعيل العمراني أنه خرج ذات يوم فقال له طلابه الى أين فقال معنا محاضرة عند الرئيس، وبالفعل كان الرئيس يجمع العلماء ويجتمع بهم لا ليسمع منهم النصح والتوجيه ولكن ليحدثهم هو عن إنجازاته واعطائهم بعض التوجيهات ثم ينصرفون الى ديارهم وطلابهم في المساجد والمراكز لتصبح دعوتهم حكراً عليها فقط أما أمر السياسة والعامة فقد أوكلوه للحاكم لا شريك له في ذلك، وهذا ما يجعلني لا أستغرب إن قال لي أحدهم العالم الفلاني عالم جليل وفاضل وبحر من العلوم لكنه سقط من أعيننا وأعين الناس لانه لم يوافق الرئيس في الموقف الفلاني .
*العلماء الذين أفرزتهم الأنظمة الحاكمة عند سبر أغوار الشعوب والمجتمعات لاسيما الاسلامية منها نجد أن ثمة عاطفة جياشة وعلاقة قوية ومتينة بين السماء ويتمثل بالأديان السماوية والتشريع والعلماء وبين الارض ويتمثل في الشعوب والمجتمعات ولا يمكن لمن يريد ان يمسك بزمام الأمور أن يفصل بينهما، لانهما بمثابة الخطام التي تُجر به الناقة وعندما يكون الطغيان هو المسيطر في أي نظام فمن الطبيعي أن يفترق السلطان والقرأن كما أخبر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولكي يبقى السلطان ماسكاً بالخطام لجر الشعوب فلابد من أن يشبع فيهم هذه الرغبة الجبلية في الناس وعندها سيجد نفسه مضطراً لاتخاذ علماء وخطباء ووعاظ ومرشدين يسبحون بحمده ويدورون في فلكه وهؤلاء قديماً كانوا يسمون بعلماء السلطان سواء كانوا بقصد أو بغير قصد لان بعضهم يستغفلون وتقد بعضهم يستغفلون وتقدم لهم المصلحة على كطُعم لجرهم الى صف السلطان وهم لا يعلمون أنهم يحدثون انفصام بينهم الحاضنة الشعبية لهم من جمهور الناس وقد كان اصحاب الجرح والتعديل من العلماء لا يقبلون حديث من يتردد على السلطان لانهم يحطون من قدر العلماء الربانين وغيرهم، وقال الشيخ محمد رشيد رضا – رحمه الله – : واعلم أنه لا مفسدة أضر على الدين وأبعث على إضاعة الكتاب ونبذه وراء الظهر واشتراء ثمن قليل به من جعل أرزاق العلماء ورتبهم في أيدي الأمراء والحكام، فيجب أن يكون علماء الدين مستقلين تمام الاستقلال دون الحكام – لاسيما المستبدين منهم – وإنني لا أعقل معنى لجعل الرتب العلمية ومعايش العلماء في أيدي السلاطين والأمراء إلا جعل هذه السلاسل الذهبية أغلالا في أعناقهم يقودونهم بها إلى حيث شاءوا من غش العامة باسم الدين وجعلها مستعبدة لهؤلاء المستبدين، ولو عقلت العامة لما وثقت بقول ولا فتوى من عالم رسمي مطوّق بتلك السلاسل على أنه صار بعد ذلك من حملة هاتيك الأوراق ، والمتزينين بتلك الكساوي الموشاة والمتحلين بتلك الأوسمة البراقة الذين يسبحون بحمد السلطان معطيها بكرة وأصيلا ، ويضللون من يطلب إصلاح حال الدولة تضليلا ؟ فهل يوثق بعلم عالم مقرب من المستبدين أو بدينه ؟
إن علماء السلف كانوا يهربون من قرب الأمراء المستبدين أشد مما يهربون من الحيات ، والعقارب.
* المشاريع الهدامة في المنطقة:
الديمقراطية والعلمانية والليبرالية والاشتراكية والزنادقة والملحدون والفرق الضالة جميعهم يدركون أن العلماء هم من يعلمون الناس الدين وهم حراسه وأنهم الصخرة التي تتحطم عليها كل مشاريعهم وجهودهم لا فساد الدين واضلال المسلمين. ولذلك يسعون جاهدين للحط من قدر العلماء ابتداء من تسويتهم بغيرهم من العامة ورعاع الناس وانتهاء بفتح العنان كل أحد وإعطائه حق الاجتهاد والتصرف والفتيا والتشريع والمشاركة في تحديد الامور المصيرية، وهنا أستدل بكلام للدكتور محمد بن موسى العامري مستشار رئيس الجمهورية ووزير الدولة وعضو الحوار الوطني” كنا في الحوار الوطني في أمور الاقتصاد والسياسة والعسكرية والدستورية والاجتماعية والثقافية والامور الدبلوماسية لا يتكلم أحد او يشارك في هذه الامور ولابد من تركها للمتخصصين فيها ولكن اذا صار الحديث عن الدين والشريعة يشارك الجميع ولا ينظر فيها أو يعطى حتى اعتبارا للمتخصصين بالشريعة”.
وفي ظل النظام الديمقراطي صعد الجاهلون الى المجلس التشريعي ويذكر أيضاً عن العلامة القاضي العمراني وقد كان عضوا في المجلس التشريعي أنه في احدى الجلسات كان من ضمن الذين سجلوا أسمائهم في الحديث ولما دخل المجلس سمع اثنين من الاعضاء يتحدثون قبله عن الربا والبنوك وكثير من الامور الشرعية دون علم وفقه فلما وصل الدور للقاضي العمراني رفض أن يتحدث وقال ساخراً الحديث اليوم لابن كثير ولابن حجر، وهي رسالة منه الى أننا صرنا في زمن الروبيضات الذين يتحدثون ويحددون مصير الامة في حضرة الكبار والعلماء. ولاشك أن هذا يحط من قدر العلماء ويسهم في زعزعة الثقة بينهم وبين والحاضنة الشعبية من جمهور الناس وعامتهم ، لذلك تستمر الحملات التغريبية والصليبية في هذا المجال وفي هذا تحدث الأقدمون حيث (قال الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم؛ فنعوذ بالله من فتنة المضلين).