مقالات
بين الجمود و التفلت .
بقلم / د . محمد موسى العامري
الثبات على الحق والمبدأ أمر عظيم لزمه الأنبياء والمصلحون وماتوا على ذلك وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ( الترمذي وأحمد ) ويقول : ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ( مسلم ) ، وقد اختلط هذا الأمر على بعض الناس فلم يفرقوا بين الثبات المحمود على الحق والمبدأ وبين الجمود والانغلاق على الرأي والفكرة !
ومنشأ الخلل حصل من عدة أمور منها :-
أ – ضعف التأصيل العلمي وعدم التفريق بين قضايا الاجماع وأصول المعتقد وموارد الاجتهاد والفروع فاعتبروا أن ما توصلوا اليه في جملة المسائل هو الحق المطلق وما عداه زيغ وضلال فأغلقوا عقولهم واستمروا على ذلك يظنون أنهم ثابتون على الحق وأنهم الفرقة الناجية دون غيرهم ! وهم في الحقيقة جامدون متحجرون على الرأي قد وقعوا في مخالفة أهل السنة والجماعة بأمور اعتبروها أصولاً وليست كذلك .
ب – الاكتفاء في تلقي العلوم الشرعية على معلم واحد ومدرسة واحدة وعدم أو ندرة التواصل مع شيوخ آخرين – من العلماء المعتبرين – لتلقي العلوم عنهم وتعدد المصادر للوقوف على ما لديهم من العلوم النافعة وقد يكون من التعصب المذموم لهذا التحجر قصر بعض الشيوخ طلابه على مدرسته وعدم إرشاده إياهم إلى الانتفاع بما لدى العلماء الأخرين حتى لا ينفضوا من حوله ويكون هذا من مداخل الهوى والحزبية المغلفة .
ج – الاقتصار على بعض فنون العلم مع إهمال سلم العلوم وشموليتها وبخاصة علوم التأسيس الأخرى كعلم أصول الفقه وقواعده ومقاصد الشريعة وما تعلق بها من معرفة أولويات الشريعة ودرجاتها وكلياتها وجزئياتها فيتولد من ذلك الخلط في معرفة المنكرات ودرجاتها والواجبات ودرجاتها وحينئذ يتحمس بعضهم لسنةٍ أو مستحب أو مكروهٍ كما لوكان أصلاً من أصول الدين أو يرى منكراً في جانب التحسينيان كما هو في جانب الضروريات ويدعوه ذلك إلى الجمود المطلق خوفاً من الزيغ والضلال – بحسب ظنه- ويغفل بعد ذلك ان الشريعة الإسلامية قد تميزت بثباتها وشمولها وفي نفس الوقت بمرونتها واستيعابها وتعاملها لكل مناحي الحياة لما فيها من الأحكام التي تستوعب جميع أفعال المكلفين وحالاتهم .
الانفلات
ويقابل هذه المدرسة الجامدة مدرسة أخرى تغذيها وتنميها وهي مدرسة التفلت من القيود والأحكام الشرعية بعضها أو كثير منها ! ومنشأ الخلل هنا مرده إلى أمور منها :-
أ- الزهد في تلقي العلوم الشرعية على يدي أهلها المتخصصين فيها واستثقال ذلك والاكتفاء بالثقافة العامة والمحاضرات الوعظية أو المنشطات الوجدانية من الأناشيد والموشحات الدينية التي تحولت تدريجياً لتكون هي والغناء مع الموسيقى وآلاتها في منزلة واحدة ويتولد من هذه الثقافة المتواضعة – مع ضعف التزكية – جنوح الى الترخصات وتطلب لشذوذ المسائل الموافقة للأهواء وما تميل إليه النفوس مع كثرة الحديث عن التسامح وذم التشديد في الدين حتى وصل الحال ببعضهم الى تعظيم جانب المعاملات فحسب وأنها جوهر الدين ومن ثم التفريط في في أصول عقدية مجمع عليها مع تهاون بأمهات العبادات او انتهاك لبعض المحرمات والشهوات المختلفة بحجة المحافظة على ما يسمونه لبّاً وغيره قشوراً ! وقد يتمادى بعضهم حتى يرى الأحكام والحدود الشرعية من الأمور الماضوية التي لا تتناسب مع روح العصر الحديث ! فيؤول بهم الى الليبرالية والعلمانية لكن بثوب إسلامي ! .
ب – الانفتاح على الأخرين من ذوي الأهواء المختلفة دون أن يكونوا متحصنين علمياً وفكرياً بما يعصمهم من الخديعة والتأثر بمشاريع الأخرين وشيئاً فشيئاً ومرحلة مرحلة يتأثرون ولا يؤثرون ويذوبون وينصهرون في غيرهم !
واذا كان الفريق الأول الجامدون ينغلقون على بعضهم ويميلون إلى العزلة المكانية أو الشعورية خوفاً من التأثر بالأخرين فهؤلاء عكسهم تماماً .
ج- تعظيمهم للمدنية ومنجزاتها ومتابعة كل جديد فيها وفتورٍ ملحوظ في الأنشطة التربوية الإيمانية مع غفلة عن حقيقة الحياة الدنيا والدار الأخرة وضعف الربط بينهما في التصور للحياة وتعقيداتها
ويضاف الى ذلك – بسبب الأوضاع السياسية المحبطة في العالم الإسلامي – كثرة الحديث عن الحريات وأهميتها وما تعلق بها من حقوق الإنسان والانبهار بالقيم الغربية وغمض الأعين عن مساوئها ومثالبها وهنا ينقسمون الى قسمين :-
قسم يرى في الغرب نموذج الإسلام كما هو لما فيه من قيم تتوافق مع الإسلام لكنه لا ينظر الى الشق الأخر التعيس المظلم في حياتهم .
وقسم يريد التوفيق بتكلف بين قيم الإسلام ومفاهيمه وقيم الغرب ومفاهيمه فيتكلف في عملية التوفيق والتلفيق حتى يخرج الإسلام وأحكامه عن جوهره وتميزه.
وين هؤلاء الجامدين المنغلقين وهؤلاء المتفلتين المنحرفين يأتي الحديث عن وسطية الإسلام وضرورة الثبات على أصوله ومبادئه وأحكامه مع بيان مرونته واستيعابه لكل مستجدات الحياة ودعوته إلى تحصيل العلوم المختلفة والنافعة ديناً ودنيا ، وفي الوقت نفسه تشتد الحاجة الى العلماء الراسخين الجامعين بين فقه الشريعة وفقه واقع الحياة وعمارة الأرض وإلى الدعاة المصلحين الذين يقدمون الإسلام ناصعاً كما أنزل ويفرقون بين الصالح النافع من المدنية المعاصرة وبين الفاسد الضار وهم المجددون المحمودون وحاجة الأمة لهم في عصرنا هذا أكثر من أي وقت مضى .
اللهم اهدنا في من هديت