تنقيح التراث بين الهدم والبناء
الرشادبرس..
يقلم/ د. محمد موسى العامري..
كثرت الأصوات في الآونة الأخيرة التي تنادي بتنقيح التراث وغربلته وإعادة النظر في هذا الموروث ومن خلال التتبع نستطيع الخروج بالاتي :
أولاً : المعنى الايجابي .
وحاصله النظر الى التراث من زاوية الانتاج البشري لا من زاوية النصوص المحكمة ومثل هذا التنقيح اذا ما روعيت فيه قواعد التنقيح يعد مفخرة حضارية في تاريخنا الاسلامي وهو جهد مستمر لم ينقطع والتراث بهذا المعنى ينقح التراث فالصحابة لهم محاورات ومناقشات واجتهادات وكذا من بعدهم فأبوحنيفة مدرسته غير مدرسة مالك التي نقحتها وهما غير مدرستى الشافعي واحمد اللتين نقحتا مدرستي أبي حنيفة ومالك وهكذا جملة الموروث الفقهي ينقح بعضه بعضاً وينقد بعضه بعضاً للوصول الى الصواب والاصوب ومن هذا القبيل المحمود مدرسة الحديث وقواعد المحدثين ونقد المرويات سنداً ومتناً ولايزال هذا الامر مستمراً ومحموداً الى يومنا هذا وسيبقى كذلك فالتنقيح ومراجعة التراث بهذا المفهوم نهضة علمية وحضارية ناصعة .
ثانياً : المعنى السلبي
وحاصله النظر الى التراث باعتباره عائقاً أمام النهضة والحداثة وحاملوا هذه الراية غالبهم من المنبهرين بالحضارة المادية المعاصرة من ذوي الثقافات المحدودة عن المفاهيم الاسلامية ويرون أن النهضة الحديثة لن تقوم الا على أساس التخلص من الماضوية كلها خيرها وشرها !
وهم مدارس متعددة
(أ) منهم المجاهر الملحد الداعي إلى استدبار الماضي بأكمله .
(ب) ومنهم الجاحد المتستر المتواري خلف الحيادية والتجرد .
(ج) ومنهم فئات تنخر في التراث تحت عناوين القراءة الجديدة للنصوص والتنوير وغربلة المرويات دون التزام بأدنى المعايير والضوابط العلمية في النقد والتنقيح حتى تطرف بعضهم في الجحود إلى نسف الموروث كله ! ماعدا القرآن وأما السنة ومروياتها في الصحاح البخاري ومسلم وغيرهما فينكرونها ! وهؤلاء مآلهم غالباً الى الزندقة والالحاد .
(د) ومنهم من يخضع التراث للنظر العقلي البحت فيجعل المقياس لقبوله هو التحكم العقلي ، مع أن العقول متفاوتة وليس بعضها حجةً على بعض حتى تصبح حاكمة على الوحي .
(هـ) ومنهم من يطوع التراث ليتوافق مع القيم الغربية المعاصرة فيجعلها هي الميزان للقبول والرد بناء على تقديس ثقافة المتسلط المهيمن فيحاكمون التراث الى مبادئ حقوق الانسان وفقاً للمفاهيم الغربية فما وافق منها قبلوه ومالم تركوه.
(و) ومنهم نفعيون مصلحيون ذوو أهواء يعملون ضمن أجندات تسعى لهيمنة تراث وافد على تراثنا وثقافة على بقية الثقافات وفي سبيل المال والامتيازات والحوافز والجوائز والنجومية والأضواء يتحركون ولارضاء من جندوهم يعملون .
(ز) وفئة أخرى سيطرت عليها نظرية التجديد والتنوير والحداثة وتقديم نفسها كمجددة ومحققة للتراث الاسلامي – لكن بدوافع نفسية منهزمة – وبدون أهلية علمية ولا آلية معتبرة فهي تخبط في مسارها خبط عشواء تارة تهدم الاجماعات لقلة اطلاعها وتارة تأتي بالشذوذ من الاقوال وتجعلها مسلمات وأخرى تضرب النصوص بعضها ببعض لعجزها العلمي عن التوفيق بين النصوص ومسالك الجمع والترجيح وهكذا سلسلة من المتاهات مردها كلها الى الهوى والجهالات .
وخلاصة الامر :
أن قضية التنقيح ومراجعة التراث تحمل معنى صحيحاً متى ماسلك بها أدواتها الصحيحة وكانت سبيلاً للابداع والتجديد والاخذ بالنافع وتقديم الحلول لمشكلات عصرنا وترك المغشوش والمدسوس في التراث ونفي الخزعبلات التي لا تتفق مع الوحي المعصوم .
وتحمل معنى باطلاً متى ما كان الغرض منها التوجه الى الوحي والنصوص المقدسة كتاباً وسنة بقصد التبديل والتحريف وتطويعها للأهواء أو الهزيمة النفسية والنكوص عن الرشد الى سبل الغواية لدوافع وأغراض عدائية للتراث أو لأغراض مصلحية ومنافع دنيوية
والله الهادي الى سواء السبيل .