مقالات

درس في السياسة “ولا تُشْمِتْ بي الأعداء”

الشيخ الدكتور / محمد بن موسى العامري *
استخلف موسى عليه السلام أخاه هارون عليه السلام على بني إسرائيل يسوسهم حينما ذهب لملاقاة ربه، فغاب أربعين ليلة، ثم عاد وقد أضلهم السامري فعبدوا العجل. فاشتد غضبه، وأخذ برأس ولحية أخيه يجره إليه، قال: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا}، فردّ هارون قائلاً: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}.
يعني: دعاه إلى مراعاة حاله مع الخصوم، وألا يضعه في موقعٍ يُشْمِتُ فيه الأعداء، لما في ذلك من نشوةٍ لدى الخصوم، وهم يرون تنازع مخالفيهم بادياً للعيان.
فمن أصول إدارة الصراعات السياسية: تجلدُ صاحبِ الحق، وعدمُ إظهارِ الخلل والضعف، دفعاً لشماتة الأعداء وتربّصهم. وفي المواقف المتعددة التي شهدتها الساحة اليمنية منذ تمرد مليشيا الحوثي وانقلابها على مؤسسات الدولة، يقدم العديد من بُلهاء السياسة هدايا وأعطياتٍ تُمدّ الحوثيين بما يشمتون ويتشفّون به، بسبب تكشف المنازعات البينية وخروجها من الدوائر المغلقة إلى فضاءات الإعلام المختلفة، مما يدل على خلل في العقل وسَفَهٍ في الأحلام، كما في قوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}.
فكمال العقل يوجب مراعاة مصلحة الاجتماع، ونقصانه يؤدي إلى شماتة الأعداء وتشفيهم بكثرة المنازعات.
ويتصل بذلك ضعف ترتيب الأولويات، سواء في جانب المطلوبات أو دفع الممنوعات، وهي أمور فطرية، عقلية، وشرعية. وأيّ اضطراب في ترتيبها، أو انشغالٍ بجزئياتها عن كلياتها، أو فروعها عن أصولها، يُعدّ خللاً في التفكير وسوء تقدير لمعركة المصير.
ولا تكاد تُخطئ العين في اليمن رؤية فئات من الغارقين في هذه المستنقعات: من نخب، وساسة، وعلماء، ومثقفين، وإعلاميين، وسواهم، تراهم هائمين في السفاسف، منشغلين بها عن عظائم الأمور، عاكفين على همومهم ومشاريعهم الصغيرة، فئوية أو حزبية أو مناطقية، تاركين قضايا الوطن الكبرى خلف ظهورهم، وغيرهم ميّالون إلى التخادم مع الأبعدين فكراً وسلوكاً ومصلحة، تاركين الأقربين من كل وجه، لأغراضٍ نفسية أو مكايداتٍ وعصبيات. وكفى بذلك هشاشةً ومدخلاً لشماتة الأعداء.
ومن مظاهر استجلاب شماتة الأعداء في واقعنا اليمني: كثرة الشكوى والنجوى من قبل بعض السياسيين في منابر وأروقة الجهات الدولية المعنية بالملف اليمني، حيث تغيب عنهم قضايا الوطن المصيرية، وتُستحضر خصوماتهم التقليدية، ويُسوّق لمصالحهم الشخصية والفئوية، متخندقين في المناطق الرمادية، يَكيلون الذم لرفاقهم في النضال، يُبخس بعضهم بعضاً، ويَسْعَون في نشر عيوبهم، جاهدين في إظهار ضعفهم، غافلين عن أن ذلك السلوك مفضٍ إلى الشماتة بهم، ودليلٌ على رعونة سياستهم وضعف تقديرهم، لأن الضعفاء ليسوا جديرين بالوقوف معهم ولا بمؤازرتهم في تحقيق أهدافهم وبلوغ غاياتهم. فالناس لا يميلون إلى تحفيز الضعفاء وأصحاب الخور، سواء في ميادين العلم أو السياسة أو حتى الرياضة.
ومن مداخل شماتة الأعداء أيضاً: تشاكس الشركاء، وتهافتهم على المناصب، في بلدٍ تطحنه الأوجاع من كل ناحية؛ فلا تعليم، ولا ماء، ولا كهرباء، ولا صحة، ولا خدمات. ومع ذلك، تمضي قوائم الترشيحات الحزبية والمناطقية على قدم وساق، في وقتٍ يتطلع فيه الناس إلى الخلاص من مشروع البغي والعدوان ـ مليشيا الحوثي الإرهابية المدعومة من إيران.
والشراكات في العمل السياسي وغيره محمودةٌ إذا قامت على العدل والإنصاف، وتقدير أهل التضحيات والمواقف الوطنية، أما إذا تحولت إلى ميادين للجشع، والأثرة، والاستقطاب، والترضية، مع تغييب المصالح الكبرى وفقدان الكفاءات والمعايير المهنية، فهي حينئذ تجسيدٌ لصورة أخرى من البغي، كما قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}.
ومن البغي أن يأخذ أحد أطراف الشراكة ما هو أكثر من حقه، ومن البغي أيضاً أن يُجحد حق غيره. وكفى بمثل هذه السلوكيات دافعاً لشماتة الأعداء.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
* رئيس الهيئة العليا لاتحاد الرشاد اليمني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى