مقالات
رؤية لفهم الحرب الدائرة في اليمن
بقلم /عادل الأحمدي
رغم مرور 17 عاماً على اندلاع شرارة الحروب المتواصلة التي أشعلتها جماعة الحوثيين في اليمن، أو من يسمون أنفسهم “أنصار الله”، إلا أن الصورة لدى الكثيرين في الخارج ما يزال يعتورها غبشُ جراء عملية التضليل التي تمارسها هذه الجماعة ومعها محور إيران، وكذلك التوظيف الكيدي لمأساة اليمن في وسائل إعلام أخرى، إضافة إلى حالة القمع التي تمارسها الجماعة وكذا حالة الكسل الذهني لدى العديد من الإعلاميين الذين يعتمدون على المتوفر أمامهم، وهناك سبب مهم يتمثل في الصياغة الرمادية التي تعتمدها التقارير المنظماتية حيث تشير الى المأساة دون تحديد المتسبب!
من هنا كان لزاماً على المختصين تصحيح الصورة وإزالة الغبش، انطلاقاً من أن وضوح الصورة سيكون عاملاً مهماً وحاسماً في إنهاء الحرب وإعادة السلام لهذا البلد المنكوب الذي يتألم وحده منذ 17 عاماً.
وقبل أشهر اقترحت الدكتورة وسام باسندوة على مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام، إعداد كتيب يعطي نظرة مقتبضبة وشاملة وواقعية بدون تهويل ولا تهوين، يتم ترجمته للغات الحية أملا في توضيح الصورة وإزالة الغبش.
وبناء عليه تم عقد ورشة عمل متواصلة لمجموعة من الباحثين للخروج بهذا الكتيب الذي نأمل أن يكون دليلاً مفتاحياً لكل من يريد التعمق في فهم هذه الحركة (الحوثيين)، وفهم ما يجري في اليمن.
ليس صحيحاً أن الحرب في اليمن تدور بين أطراف متصارعة، ولا بين اليمن وجيرانه، بل بين شعب مسنود بحكومته الشرعية وجواره العربي وبين حركة إرهابية مؤدلجة مسنودة من إيران وحلفائها بالمنطقة. وسأسرد في عجالة خلاصة ما توصلت إليه، كوني عشت أحداث هذه المرحلة يوماً بيوم، منذ الأسبوع الأول صيف العام 2004، تاريخ أول حرب أشعلتها جماعة الحوثيين في أقصى شمال اليمن..
وأحاول في هذه العجالة تفكيك الإشكال المنهجي الذي عادةً ما يصادف محاولات فهم ما حدث، ذلك الإشكال المتمثل في السؤال التالي: كيف استطاعت جماعة إرهابية عنصرية متخلفة أن تستولي على عاصمة البلاد وتصمد سنوات في مواجهة حكومة معترف بها دولياً تؤيدها كافة الأطياف السياسية والمجتمعية، ويدعمها تحالف بقيادة بلد قوي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً مثل المملكة العربية السعودية؟! تساؤل وجيه ومدخل مناسب للحديث عن اللحظة اليمنية الراهنة من كافة الأبعاد والزوايا.
الحوثيون حركة باطنية عنصرية سلالية عقائدية إرهابية مسلحة، لديها سوابق ماضوية دامية في اليمن، متمثلة بدورات حكمٍ متقطعة للإمامة الهادوية (الزيدية)، ويحركها بشرياً رافعة سلالية من بعض الأسر التي تقول إنها من نسل بيت النبوة، بينما يحركها فكرياً ما يسمى “المذهب الهادوي”، أحد مذاهب التشيع التي تقول إن حصر الحكم في هذه الأسر هو حق إلهي من السماء. وقد ثار اليمنيون في شمال البلاد على آخر حكام تلك الإمامة في 26 سبتمبر 1962، معلنين النظام الجمهوري.
ارتبط هذا التيار في مراحل تاريخية عدة بإيران، والتي أذكت فيه الروح مجدداً بعد قيام ثورة خميني 1979، وصار بمثابة أداة احتلال لصالح إيران وبندقية مستأجرة تنفذ أجندته في التوسع معتمدة خطه الخطابي التحريضي المزايد على قضايا الأمتين العربية والإسلامية وأسلوبه الباطني المراوغ في التغلغل والهدم من الداخل.
كفل النظام الجمهوري في اليمن مشاركة كافة أطياف المجتمع في الحكم بما فيهم التيار الإمامي الذي تغلغل في كافة أطياف المجتمع في الحكم وفي المعارضة والأحزاب والمنظمات، مشدوداً لماضيه التسلطي، وكان تمرد الحوثيين في 2004 رأس حربة لعودتهم إلى السطح بعد أن تم نسيان الخطر الإمامي في الوعي الجمعي، بسبب تتابع العقود وانهماك المجموع اليمني في متطلبات التنمية ومعارك التنافس الحزبي وهواجس الحفاظ على وحدة العام 1990 بين شطري البلاد.
أشعل الحوثيون تمردهم في يونيو 2004 وفق خطة تصاعدية تضمن لهم الخروج أقوياء بعد كل جولة مواجهات مع الحكومة، إذ كانوا يعلنون الاستسلام قبل الهزيمة ويجنحون لصلحٍ يقومون بنكثه مراراً ما جعل الحرب تتكرر ست مرات، آخرها بين عامي 2009 و2010. (وهي ست حروب من زاوية اشتراك الحكومة أما الحوثيين فهم يشنون حرباً واحدة ومتصلة من ٢٠٠٤ وحتى اليوم). ومنذ 2011 اتخذ التوسع الحوثي طابعاً أحادياً ودراماتيكاً سنأتي عليه عليه لاحقاً.
استغل قادة الحوثية حالة السخط التي طالت عموم المسلمين، باستثناء الشيعة، وبالتالي تفردوا برفع الشعارات الدينية المدغدغة لعواطف العوام، مستفيدين من حالة الوفاق بين إيران وأمريكا خلال غزو أفغانستان ثم العراق.
خلال الحروب الست لعبت الامتدادات الباطنية الحوثية في الدولة والأحزاب دوراً تضليلياً ساعد في تفويت الإجماع الوطني اللازم لإخماد التمرد.. وعاماً بعد آخر، صارت الحركة الحوثية المسلحة محط اهتمام قوى إضافية غير إيران، بعضها يريدهم أن يكونوا أداة لإيذاء السعودية وبعضها يريد منهم أن يكونوا أداة لكسر شوكة النظام وتحجيم قوى سياسية واجتماعية محلية.
شهد اليمن خلال احتجاجات 2011 أو ما يسمى “الربيع العربي”، انقساماً رأسياً وأفقياً في جسد الدولة والمجتمع، وقدمت الحركة الحوثية نفسها للأطراف السياسية المتنازعة كفرس رهان تترجح به كفة طرف على آخر، وابتلع الجميع الطعم بسبب التعامل الكيدي مع المخاطر الاستراتيجية والثقة الزائدة عند كافة هذه الأطراف أنها سوف تركل الحوثيين بسهولة بعد الاستفادة منهم ضد الخصوم.. وهكذا إلى أن وجد الجميع أنفسهم ضحايا تلك الحسابات الضيقة، واستولت المليشيا على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014، بأطقم قليلة وسط ذهول وصدمة السكان وفي ظل حالة تخدير وتواطؤ نجم عنها تحييد مؤسسات الجيش والأمن.
قبل ذلك مارس الحوثيون منذ 2004 سياسة ترهيب متصاعدة، إذ قاموا بعمليات اغتيال للمناوئين وتفجير لمنازلهم وتهجير لمئات الآلاف، وأظهروا وحشية لم يعهدها المجتمع اليمني حتى في فترات النزاعات المسلحة.. قتلوا الأطفال والنساء والكبار والصغار وتجاوزوا كل الأعراف والمواثيق وظلوا يتوسعون مقابل طمأنات يرسلونها لحواجز الصد المحتملة، بهدف تعطيل فاعليتها والانفراد بكل طرف على حدة. وليس آخرهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، الذي اغتالوه في الرابع من ديسمبر 2017.
مضت المليشيا وفق خطة إيرانية بالغة الخبث واستكملت حلقاتها بالتحرش بالجار السعودي، بعد سبتمبر 2014، بهدف إدخالها في الحرب ليرفعوا هم بالتالي شعار مواجهة ما أسموه “العدوان” فيحكموا مناطق سيطرتهم بالحديد والنار ويقدِمون على تصفيات لكوادر وشخصيات وقيادات مدنية وعسكرية، تماماً كما فعل الخميني أثناء تحرشه بالعراق في العام 1980، لتصفية خصوم الملالي بالداخل!
بعد سقوط صنعاء سبتمبر 2014، مارس المبعوث الأممي الأسبق إلى اليمن، جمال بنعمر، ضغوطاً ليُوطّن الأطراف السياسية والحكومية على الوضع الجديد، وتم توقيع اتفاق سمي “السلم والشراكة”، ابتلع الحوثيون من خلاله بعض المؤسسات وما هي إلا شهور قليلة حتى فرضوا الإقامة الجبرية على الرئيس عبدربه منصور هادي وقاموا بإعلان يخولهم بإدارة البلاد وتجميد الدستور وأسموه “الاعلان الدستوري”!!
تمكن الرئيس هادي من الإفلات وانتقل إلى عدن، فقصفوا بالطيران مقر تواجده في مارس 2015، وبدأوا باقتحام العاصمة المؤقتة عدن، ما أجبر الرئيس على الخروج إلى السعودية طالبا نجدة الجوار لتبدأ “عاصفة الحزم لإعادة الشرعية”، وإسقاط الانقلاب في أواخر مارس 2015.
تمكنت القوات الحكومية مسنودة بالتحالف من بسط السيطرة على ثلثي مساحة البلاد، وخلال ذلك تمت إدارة المعركة تحت قاعدة “حقن الكثير من الدماء بإنفاق الكثير من الوقت”، وبطريقة تهدف إلى الضغط على الحوثيين وجذبهم لتسوية سلام. وتمت عدة جولات تفاوض ولكن دون جدوى.
وخلال هذه السنوات انحدر الوضع الإنساني إلى القاع وارتكست مناطق سيطرة المليشيا إلى حال أسوأ من القرون الوسطى، حيث قاموا في مناطق سيطرتهم بما يلي:
– تجريف ممنهج لمؤسسات الدولة وتسريح إدارييها وإحلال كارد سلالي ونهب رواتب مئات الآلاف من الموظفين والاستيلاء على الإيرادات ومضاعفة الضرائب والجمارك والتنصل من كافة المهام الخدمية والمشاريع التنموية.
– تعذيب السكان عن طريق الافتعال الدائم الأزمات التموينية، وفرض الإتاوات أشكالاً وألواناً باسم المجهود الحربي ومقاومة ما يسمونه “العدوان”، في ظل وضع مأساوي يعيشه أغلب المواطنين. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل امتد لنهب المساعدات الإغاثية المقدمة من المانحين والتي تصرف عبر المنظمات الدولية، وبالتالي تحمل المواطن في مناطق سيطرة المليشيا وغيرها كلفة الحرب في ظل حالة إثراء متنامٍ لمشرفي المليشيا، ولولا عائدات نحو ثلاثة ملايين مغترب يمني أغلبهم في السعودية، لكانت المأساة أكبر.
– عسكرة المدارس والزج بآلاف الأطفال إلى الجبهات بالترغيب والترهيب وسط خطاب تكفيري وتخويني يستغل مؤسسات الدولة في صنعاء لإرهاب المواطنين ليل نهار، بحيث صار المواطن متهماً حتى لو ثبتت براءته..
– الإمعان في قهر المجتمع والزج بآلاف الأبرياء إلى زنازن الاعتقال التي تُمارس فيها أشكال التعذيب، مع قيام المليشيا بتصفيات واغتيالات للعديد من المناوئين لها، بل وحتى للعديد من حلفائها وقادتها من غير السلاليين.
– مصادرة كافة أشكال الاحتجاج والتعبير وإغلاق مئات الصحف والمواقع الكترونية غير الموالية للجماعة وخنق الحريات العامة والخاصة، و”دعشنة” الحياة اليومية.
– شنت المليشيا حرب اجتثاث ضد مستندات الاعتزاز الوطني من تراث وتاريخ وفنون وآثار ومسميات شوارع ومرافق عامة.
– تطييف المجتمع وإحياء النعرات المناطقية والمذهبية والطبقية وبث خطاب الكراهية للداخل والخارج، بحيث باتت الأسر الهادوية نفسها متضررة من هذا المشروع الذي أيقظ ثارات القرون الماضية.
– “خيمنة” العاصمة، وإغراقها بصور الرموز الإيرانية ومحاولة خيمنة وسائل الإعلام ومناهج التعليم، لينتهي الأمر بتسليم مقاليد الأمور في تلك المناطق لجنرال ايراني يتحرك بوصفه سفيرا لطهران لدى المليشيا!
– تقطيع أواصر المجتمع وقطع العديد من الطرق الرئيسية بين مناطق سيطرتها وبقية المحافظات، ما جعل كلفة التنقل كبيرة كعقاب جماعي يطال المواطنين في الجانبين، بالإضافة لأهداف أخرى منها الحد من انضمام المقاتلين من مناطق سيطرتها إلى صفوف القوات الشرعية.
– إمطار الأحياء السكنية في مناطق الشرعية وبعض المدن السعودية بالصواريخ البالستية وقذائف الطائرات المسيرة والمدفعية وغيرها. وزرع ملايين الألغام بالتراب اليمني الأمر الذي ينتج عنه تلقائيا ضحايا جدد كل يوم.
كل ذلك، بالإضافة إلى فظائع وانتهاكات عدة ستجدون جانباً منها في تلافيف هذا الكتيب.
ولعل آخر المجازر التي ارتكتبها هذه الجماعة قصف مطار عدن الدولي وإحراق نحو 350 لاجئاً إثيوبياً في أحد أماكن الاحتجاز بصنعاء بعد رفضهم القتال في صفوف المليشيا الحوثية.
من جهته، وبعد ست سنوات من سيطرة المليشيا على العاصمة صنعاء، دخل المجتمع في مناطق المليشيا وخارجها، بكل فئاته وأحزابه وفرقائه، في غمرة مراجعات كبيرة وهامة وشجاعة للوقوف أمام الأخطاء السابقة التي مكنت جماعة يعتبرها أحرار البلاد عدو اليمن التاريخي، من العودة من قبور التاريخ لتفسد الحاضر وتحاول تفخيخ المستقبل. وتعاظمت لدى المجموع اليمني حالة تثمين لكل المراحل التي تم قطعها من قبل، في طريق الحرية والديمقراطية والتنمية والتعايش والتسامح والتفاعل الإنساني الخلاق.
ثمة اليوم حالة وعي متنامية أن الحوثي لم يسيطر بذكائه بل بخلافات اليمنيين، وأنه لم يصمد بسبب قوته أو شجاعته بل بسبب إرهابه وحرص الحكومة والتحالف على حقن الدماء، وأنه لم يجند الآلاف بسبب قوة حجته بل بسبب التضليل والتجهيل من جهة، والإفقار والتجويع من جهة أخرى.
وفوق ذلك، ثمة وعي أن بعض الضغوط التي تمارسها المؤسسة الأممية وأطراف أخرى على الشرعية والتحالف، بما يخدم الحوثي بالمحصلة ويطيل الحرب باليمن، سببها أن العالم لم يفهم جيداً طبيعة المأساة اليمنية وبالتالي كان قرار إدارة بايدن خطأ واضحاً بإلغاء تصنيف الجماعة منظمة إرهابية، إذ عقب ذلك القرار ازداد إرهاب المليشيا تجاه الداخل والخارج، ومن هنا يأتي هذا الكتيب لتوضيح الصورة قدر الامكان.
كل ما هو مطلوب من العالم اليوم أن يبذل جهداً أكبر في فهم ما يحدث في اليمن، وألا يتعامل مع معاناة الشعب اليمني تعاملاً كيدياً بهدف تصفية حسابات مع دولة ما في التحالف، أو كورقة مساومة في الملف الإيراني النووي.
اليمنيون شعبٌ يقدّر الحياة ويحترم الأحياء ويجب الإنتاج ويعشق السلام ويغني للجمال، شعبٌ يستحق أن يعيش حياة حرة وكريمة، لا أن يموت في مقابر العنصرية البائدة.
لقد آن أن يعود السلام لهذه الأرض ولقد صار واضحاً للداخل والخارج أن درب السلام يبدأ بنزع مسببات الحرب، ولا سلام إلا بعودة دولة الشعب للشعب، وعودة سلاح الشعب لدولة الشعب. عدا ذلك فهو خذلان وإطالة للحرب لا أكثر.