مقالات

سقوط امبراطورية الملهى

إن رصد التحولات التى اجتاحت مصر وهزتها من الأساس بعنف هو أقرب طريق لتفسير ما يسمى بالمشهد السياسى الملتبس حالياً.
من أهم هذه التحولات تغيير خريطة اهتمامات المواطن المصرى وتراجع إمبراطورية الملهى، فقد كان نظام مبارك يعتمد على مجموعة من الأصول “بلغة رجال المال”، ليسهل له أكبر عملية سرقة ولصوصية فى التاريخ وهى سرقة وطن.
ولكى يسهل نظام مبارك لنفسه عملية السرقة هذه كان يحتاج لوسيلة إلهاء، شىء “يخايل الزبون”، وهو الشعب، وكان مبارك ونظامه يعتمدون على ثلاثة أقسام من الأصول: الصحافة أو المنظومة الإعلامية.. نجوم الكرة أو المنظومة الرياضية.. ونجوم السينما أو المنظومة الفنية، وبينما صمدت المنظومة الإعلامية فى مصر ضد الثورة بشكل قوى ولم تتأثر كثيراً بالعكس اكتسبت أرضاً جديدة، ولم تفقد أحداً ولم تصب بخسائر تذكر..
إلا أن المنظومتين الأخريين أصيبتا بخسائر بالجملة..
إمبراطورية الفن
هناك مشهدان يعكسان مدى تدهور حالة الوسط الفنى فى مصر..
المشهد الأول هو إعلانات السينمات بالمحروسة، لاحظ فقط وتأمل، فبينما تسير فى شوارع القاهرة ذات الأحياء الذاخرة والأندية العامرة، تلحظ مدى تحول المشهد على إعلانات السينمات المصرية، فبعد أن كانت السينمات مكتسحة قبل الثورة مباشرة بأفلام هنيدى وعادل إمام وغيرهم من “نجوم” الكوميديا المصرية، بت ترى وجوه توم كروز ودنزل واشنطن ودانيل كريج.
والحقيقة أننى قمت بعمل بحث سريع فى دور العرض المصرية، وفوجئت (حقاً فوجئت) بأنه لا يوجد بالسينمات إلا عدد قليل جداً من الأفلام لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة وهو ما أذهلني، لا سيما وأنها (كلها) منذ فترة وهى بالعرض.
إن هذا المشهد التسويقى الذى يمكن لحضرتك أن تلمسه بسهولة يعكس الآتى..
أن هناك عطبًا ما عطل صناعة السينما فى مصر، فلم تعد الأفلام تصدر بنفس المعدل ولا بنفس الكمية..
فيروس خطير أصاب تلك الآلة الجبارة التى أكلت من دم المواطن المصرى 232 مليون جنيه فى عام 2010،
هذا الفيروس جعلها تفقد نصف هذا الإيراد لتصل إلى حوالى 112 مليونا والأرقام تقريبية، أى أقل من النصف، ويصل عدد المعروض من الأفلام فى 2011 إلى 22 فيلما، والذى ببحث سريع أيضاً ستكتشف أنه أقل معدل إنتاج سينمائى للسينما المصرية منذ عشرين عاماً!
ثم بالتأكيد ليس لنفس الأشخاص، فكل أبطال تلك الأفلام هم من غير المشاهير.
المشهد الثانى فوجئت به أثناء عودتى للمنزل منذ بضعة أيام، حيث سمعت بالراديو لإعلان محمد هنيدى الجديد وبرنامجه بإحدى القنوات المصرية الخاصة وهو بالمناسبة.. برنامج مسابقات..
شىء عجيب أن نجوم الشباك المصرى اتجهوا فجأة وبدون سابق إنذار للعمل بالتلفاز، لاسيما هؤلاء الذين تربعوا على عروش الإيرادات، وكانت أفلامهم تدر عشرات الملايين على شركات الإنتاج!!
إن تفسير هذا الأمر فى إطار اقتصادى أمر محل نظر،
فالتدهور الاقتصادى فى مصر هو تدهور “نخبوي” “برصوي” لا يلمسه المواطن وإن شكا، والأسعار لم ترتفع على جماهير السينما هذا الارتفاع القاتل الذى يجعلهم يقلعون عن تلك الآفة التى كانت تأكل من أوقاتهم فى أحسن الظروف أربع ساعات بالكامل!
إذاً ماذا حدث؟
ما الذى جعلنا نرى هؤلاء على شاشات التلفاز؟

 

إمبراطورية الرياضة
والحقيقة أن نفس ما ينطبق على الكرة ينطبق على الفن،
إلا أننا يجب أن نعترف أن سقوط إمبراطورية الفن كان أسهل وأكثر توقعاً من إمبراطورية الرياضة..
فالسينمات فى مصر هى بشكل أو بآخر للقادرين على تحمل تكلفتها، إلا أن الكرة كانت متعة الرجل الفقير، وبالرغم من المحاولات المستميتة للقائمين على الكرة فى مصر لتحويل النشاط إلى نشاط استثمارى وإدخال نظم الحجب والتشفير، إلا أن النظام السياسى البائد كان يتدخل وبقوة متصدياً لهذه المحاولات..
فقد كانت الكرة تمثل وقود بقاء النظام..
وظهر مبارك ونجلاه باستمرار حول لاعبى الكرة بغرض اكتساب شعبية ال”نجوم”..
لم يكن سقوط إمبراطورية الكرة فى مصر قائماً، كما قال المحللون على قضية تحزبهم لمبارك وابنه فى الثورة،
وتوقفت بفضل عدة عوامل أنشطة الكرة فى مصر
وفقد “الرياضيون” كل قدرة على التأثير فى الجماهير
ولم يعد الشعب يصغى ولم يعد يتأثر.
وتحولت الكرة إلى مكانها الطبيعى، مجرد تسلية لا تصلح سوى لساعة تقضيها أمام التلفاز ثم تنصرف عنها ناسياً تفاصيلها، إذاً ما السبب فى سقوط إمبراطوريتى الكرة والفن؟
الجواب يا سيدى هو أن المواطن الذى كان يقبل على الملهاة ليقطع بها سآمة يومه فى عصر الطاغية وليكسر بها حدة ملل ورتابة ذلك الأسود الكئيب الذى جسدته الطبيعة فى مصر فى سخرية تكاد ترقى لمرتبة المثيولوجيا بسحابة سوداء تعبر سماء مصر من وقت لآخر.. لم يعد بحاجة حقيقية لهذا الإلهاء..
فالجو السياسى فى مصر المشحون بكل سوءاته كسر رتابة الوضع فى مصر، وكلنا يذكر اجتماع المواطنين فى المقاهى حول جلسات مجلس الشعب..
الأمر الآخر هو فقدان الشعب للحاجة للإلهاء ورغبته الأكيدة فى الانتباه، وسبب ذلك أنه كان يسعى فى ظل نظام الطاغية للإلهاء بنفسه ويدفع فيه مالاً لكى يهون على نفسه تلك الطريق التى يمشى فيها ولا يرى أمامه إلا ظلامًا، ويرى نفسه عاجزاً عن التغيير، أى تغيير، فكان يلجأ إلى تلك الملهيات.. الشعب كان يريد أن يضحك ليخرج من حالة النكد، لكنه الآن فى أعماقه يعلم بكل جد أنه لم يعد بحاجة لمخدر الضحك، حتى هؤلاء الذين يؤمنون بأن الوضع فى مصر قاتم وسودوي
لم يعودوا يؤمنون بعدم القدرة على التغيير..
حتى هؤلاء الصارخين فى وجوهنا المنادين بسقوط الدولة الوليدة.. لم يعودوا قابلين للإلهاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى