مقالات
صراع الدولة والمليشيا
بقلم /د.محمد جميح
تمر بعض الدول العربية بمرحلة من الحروب المستمرة التي لا يراد لها أن تحسم، حسم الحرب بفوز أحد طرفيها أو أطرافها المتعددة ليس في صالح من يريد استمرارها لترويج بضاعته أو لابتزاز أطرافها.
عدم حسم الحرب يترك البلاد مقسمة والمستقبل مرهوناً لدى الحاضر والشعوب في حالة احتراب دائم، ويؤدي إلى استنزاف كل الأطراف، بما يخدم توجهات معينة.
الوسيلة الأبرز في تاريخ تلك الحروب هي الميليشيات، الميليشيات هي كلمة السر في فهم هذه المرحلة، حيث يلزم وجودها لاستنزاف الدول ومقدرات الشعوب، وهي سمة «حروب الوكالة» التي ينفذها الخارج في الداخل، وهي كلمة السر في الوصفة السحرية التي أعدت لديمومة هذه الحروب، وهي القنابل الانشطارية التي تتشرذم وتتحول إلى شظايا صغيرة أكثر خطورة، وهذا هو المطلوب لإطالة أمد الصراع، وتوسيع دائرة الخراب.
الميليشيات في مقابل الدولة، هذه هي المعادلة التي وفقاً لها يتم الحديث عن «أطراف صراع» متساوية في المشروعية، وهذه الوصفة مطلوبة كذلك، لأنها تنزع صفة المشروعية عن الدولة، ولكن لا تعطيها للميليشيا، وهذا أيضاً مطلوب لإدانة الجميع دون تفريق، ومن ثم عدم الشعور بالحرج بسبب التراخي إزاء الميليشيا والتشدد أمام الدولة، بما أن الجميع أصبح «أطراف صراع» والهدف إضعاف الدول أمام الميليشيات والجيوش أمام العصابات، لغرض عدم القدرة على حسم الصراع.
وفي حال تساوي أطراف الصراع في موازين القوى فإن الأمر مفيد لاستنزافها، أما في حال ميلان الكفة لصالح الميليشيا ضد الدولة فإن الميليشيا تظل دولة داخل الدولة، ووفقاً لهذه المعادلة تحوز الميليشيا السلطة الفعلية ويكون للدولة السلطة الصورية، أو أن الميليشيا «تتحكم» فيما الدولة «تحكم» و«المتحكم» هو المسيطر الفعلي، فيما يظل «الحاكم» مجرد إطار رسمي يختبئ وراءه المتحكم، في وضع تكون الكعكة فيه من نصيب الميليشيا وتقع المسؤولية على الدولة، ويشبه هذا الوضع حال مريض ينهش جسمه السرطان ويتغذى عليه إلى أن يقضي عليه تماماً، وهذا ما يراد لدولنا، وفقاً لأية وصفة لحل سلمي يفضي إلى وقف الحرب.
ومع الزمن يراد للميليشيا أن تتحول تدريجياً إلى دولة، ولكن دولة فاشلة لا تعرف كيف تدير شؤون الناس ولا تقدم لهم الخدمات، لأنها أصلاً لم تأت من خلفيات إدارية ومهنية وإنتاجية، بل إن جل ما تتقن استعماله هو السلاح، وهذا ما يجعل المراهنين على الميليشيا يكسبون الرهان ليس لتدمير مؤسسات الدولة وحسب، ولكن لتفتيت المجتمع والنظر إليه لا على أساس أنه شعب، بل على اعتبار أنه مجموعة من الطوائف والقبائل والمناطق الجغرافية ومراكز النفوذ التي لا تنتهي صراعاتها، وهنا يغيب مفهوم الشعب، وتندثر معالم الدولة، ولا يبقى من ذلك كله إلا أصوات المدافع التي لا يصل إلى مستواها إلا صرخات ضحاياها في ربوع تلك الأوطان المنكوبة بـ»ملشنة» دولها و«تطييف» شعوبها.
في 2018 اقتربت القوات اليمنية المدعومة من التحالف العربي في اليمن من مدينة الحديدة الاستراتيجية، اقتربت إلى مسافة ثلاثة كيلومترات من ميناء المدينة، وأحكمت السيطرة على مدخل المدينة الشرقي، والجنوبي، ولم يبق لميليشيا الحوثي إلا منفذ صغير على الخط الساحلي المتجه شمالاً، وبدا حينها أن المدينة ستخرج عن سيطرة الحوثيين بمينائها الاستراتيجي الذي يمدهم بإمكانيات البقاء من سلاح وطاقة وغيرها من المهربات. يومها ألقت الدول الكبرى بكل ثقلها لوقف الحرب، تحت ذرائع إنسانية واهية، وحينها ضخت الآلة الإعلامية كماً هائلاً من أخبار «الأزمة الإنسانية الأكبر في العالم» كان ذلك لأجل الضغط لوقف المعركة التي وقفت بالفعل، حينها تنفست الميليشيات الصعداء، وتم التوقيع على اتفاق استوكهولم الذي لم يكن الهدف منه أكثر من إنقاذ الميليشيا التي التقطت الإشارة، وانطلقت في حروب متعددة للسيطرة على المناطق التي اندحرت منها من قبل، لتدخل البلاد بعدها في نفق مظلم من المساومات التي أخلت بمشروع بناء الدولة، وفتحت الأبواب لمزيد من الملشنة سياسياً وأمنياً واجتماعياً، في وضع لن يُسمح فيه بانهيار كلي للدولة، لترثها الميليشيا، ولا لهزيمة ساحقة للميليشيا لصالح استقرار الدولة، لأن ذلك سيعطل وصفة «الميليشيا المتحكمة» ـ فعلياً ـ التي تحوز السلطة بدلاً عن الدولة، و«الدولة الحاكمة» ـ صورياً ـ التي تتحمل المسؤولية بدلاً عن الميليشيا.
وفي الحروب الأهلية يتعامل الخارج من منظار المصالح في الوقت الذي يشيع أنه يتعامل من منظار القيم وحقوق الإنسان التي غالباً ما تسيَّس لخدمة تلك المصالح المستثمرة في بنوك الدم المنتشرة في أكثر من دولة وإقليم، وعلى هذا الأساس يرسل الخارج السلاح لأطراف الصراع من جهة، ويرسل مبعوثي السلام لتلك الأطراف من جهة أخرى، وهو مستفيد من الجهتين، فمصانع السلاح مستفيدة، و«الضمير العالمي» مستريح.
وبما أن الحال هذه فإن أي نظام سياسي ينبغي أن يفكر ألف مرة ومرة قبل الدخول في صراع مع أي مكون من مكونات مجتمعه، مهما كان هذا المكون صغيراً أو مقدوراً عليه، ذلك أن تفجر الصراع ينتهي بهذا المكون وقد كبر بإرادة دولية، لأن هناك من يريد أن ينال من الدولة التي وجد فيها هذا المكون، وأن يستنزف الكل في صراع لا يخرج منه طرف بنصر حاسم، قدر ما تكبر الميليشيا إلى أن تأخذ شكل دولة، وتتقزم الدولة إلى أن تغدو على هيئة ميليشيا، ويستمر الحال على هذا المنوال لغرض إعاقة عمليات التنمية، وتحييد عناصر القوة بإعادة توجيهها لضرب بعضها في الداخل.
أخيراً: وصفة الدولة الميليشيا أو الميليشيا/الدولة ليست قدراً محتوماً على دولنا ومجتمعاتنا، ويمكن لهذه الوصفة أن تفشل شريطة إدراك جميع مكونات المجتمع لخطورتها على المجتمع ككل وعلى مكوناته منفردة، وشريطة أن ندرك أننا نقترب من الحل كلما ابتعدنا عن أولئك الذين يرسلون السلاح من جهة ومبعوثي السلام من جهة أخرى، وأنه مثلما أن المشكلة بدأت داخلية فإن الحل يبدأ من الداخل، وأن الخارج حتى وإن افترضنا حسن نواياه فإنه يظل بعيداً عن فهم تعقيدات المشكلة وإمكانات الحلول.
في اليمن ـ مثلاً ـ يركز الحل الدولي على إشراك شريحتي «النساء والشباب» في الحل، وهذا التركيز على وجاهته يفتقر إلى الواقعية، إذ يصعب تصور دور محوري لـ«النساء والشباب» في ميكانيزمات الحل في المجتمعات التقليدية، حيث لا تملك تلك القوى المدنية فائض قدرة على التأثير بشكل مباشر على مجريات الحرب والسلم في تلك المجتمعات. وقد تجلى ضعف الأداء الدولي بشكل بارز في عجز «الحل المستورد» عن إطلاق سراح آلاف أسرى الحرب، فيما استطاعت الوساطات القبلية المحلية الإفراج عن أضعاف من تم الإفراج عنهم بوساطة دولية.
إن الحلول تقترب من النجاح كلما كانت محلية داخلية وبعيدة عن رؤية المجتمع الدولي التي تظهر عاجزة عن فهم تعقيدات المشهد الداخلي، ومع ذلك يمكن الاستفادة من تجارب شعوب أخرى خرجت من حروب أهلية طاحنة بجهود وطنية بعد أن عجز المجتمع الدولي عن تقديم الحلول السحرية المرجوة.