مقالات

عين جالوت.. أمجاد تتجدد

بقلم /احمد المقرمي
في شهر رمضان من العام 658 هـ، كانت أرض الكنانة – مصر – تستعد للرد العملي على غطرسة المغول، وتصقل سيوفها لكتابة رد تاريخي على غرور هولاكو القائد المغولي الذي وجه رسالة لسيف الدين قطز سلطان مصر، اختار لها كل مفردات التهديد والوعيد: “عليكم بالهرب، وعليّ بالطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، فمالكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص…”، ومضت الرسالة على هذا النحو المتعجرف.
كانت انتصارات المغول التي اجتاحت المشرق وأسقطت بغداد، عاصمة الخلافة، تملي ألفاظ هذه الرسالة المغرورة؛ بل قد سبقتها مقولة إعلامية انتشرت لتروج للتتار تقول: “إذا سمعت بأن التتار قد هُزموا فلا تصدق!” وفي عصرنا، بدأ الصهاينة يستنسخون هذا المعنى ليحيطوا جيشهم بهالة من الرعب، مهددين العرب بأن الجيش الصهيوني لا يُقهر. ومع ذلك، فإن رجال الطوفان قد ذاقوا الجيش الذي لا يُقهر مرارات الهزيمة بأقسى مما كان يتوقعه جيش صهيون وقادته السياسيون والعسكريون. وهذا يجب أن يعزز موقف العرب لتجديد تلك المرارة في قلوب الصهاينة عبر مواقف مسؤولة، لا تمكّنهم من تحقيق ما خسروا في الحرب من خلال السياسة.
كانت سلطة المماليك في مصر تشهد صراعًا داخليًا وخلافاتٍ ظاهرة، لكن مع اقتراب المغول وعزمهم على اجتياح مصر، تعامل قادة مصر مع هذا التهديد برؤى مسؤولة، وموقف من روح القيادة الناضجة التي كانت مدركة لمهامها. فقد طرحوا خلافاتهم جانبًا، ووحدوا صفوفهم لملاقاة العدو صفًا واحدًا على الأرض، لا كلامًا إعلاميًا مترهلًا. وهذا الموقف يذكرنا بوحدة الصف الجمهوري في اليمن، الذي رغم الخلافات الحادة بين أفراده، حينما هاجمت فلول الإمامة الملكية وحاصرت صنعاء، كان الجمهوريون عند مستوى المسؤولية، موحدين في مواجهة الملكيين حتى تم فك الحصار وإلحاق الهزيمة بالإمامة.
طرح المماليك طموحاتهم الشخصية، وأوهامهم، وهواجسهم المتعلقة بالقفز على السلطة. ففي حضرة العدو الذي يوشك على الانقضاض، رمى الرجال تلك الأوهام، وداسوا على هواجسهم، فكانوا يدركون أن السفينة ستغرق بمن فيها إن لم يتخذ أهلها الموقف الحاسم والقرار الصارم، وهو الجهاد. وما سواه إلا الاستسلام، وهو ما استشعره المماليك في مصر، ليعطوا بذلك درسًا عبر التاريخ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
توجه قطز بجيش الكنانة لملاقاة المغول، ولم ينتظر حتى يأتيهم إلى عقر دارهم، وكانت معركة عين جالوت في 25 من شهر رمضان من العام 658 هـ. كان المغول يغرونهم رصيد انتصاراتهم السابقة وكثرة عددهم، معتقدين أنهم في لحظة إنزال الضربة الساحقة على آخر معقل للأمة الإسلامية وحضارتها، التي يجب أن تُباد.
حرب الإبادة التي استهدفت الأمة خاضها المغول من قبل، وكذلك الصليبيون، وما يمارسه الصهاينة اليوم هو امتداد لتلك المشاريع الهمجية التي تنزع عن أصحابها إنسانيتهم وآدميتهم.
معركة عين جالوت نسفت كل حسابات المغول، فقد احتدمت المعركة، وأظهرت البداية تفوق المغول الذين وصلوا إلى قلب الجيش الإسلامي، حتى أصيبت زوجة سيف الدين قطز إصابة قاتلة. فهاله ما حل بها، فنادى: “وا حبيبتاه!”، فقالت وهي تلفظ أنفاسها: “لا تقل وا حبيبتاه، بل قل: وا إسلاماه!” فالتقط الشعار وراح يردد بصوت حَرِب: “الله أكبر… وا إسلاماه”، فيردده الجيش كله، فإذا هو روح تسري في الصفوف التي استعلت بالله، وحققت النصر، ملحقة هزيمة نكراء بالجيش الذي لا يُهزم.
واليوم، وفي ظل الأحداث المتصاعدة في فلسطين، التي تعيش في أتون صراع سياسي وعسكري محتدم، ينتظر العرب موقفًا موحدًا يعزز الكرامة العربية، ويعيد أمجاد عين جالوت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى