حاضرنا والحقيقة التاريخية – قراءة تحليلية في مقال الدكتور “عبدالوهاب الحميقاني”-
الرشادبرس- تقرير
يقدّم الدكتور- عبدالوهاب الحميقاني- “حفظه الله ” في مقاله “حاضرنا والحقيقة التاريخية” معالجة فكرية راقية لقضية مركزية تتعلق بمصداقية وعينا بالتاريخ، وانعكاسات هذا الوعي على الحاضر والمستقبل. ومن خلال تسليط الضوء على حدث الوحدة اليمنية كنموذج، يناقش بعمق كيفية تشكّل الذاكرة الجمعية، والتحديات المنهجية والمعرفية التي ترافق قراءتنا للتاريخ.
المقال لا يكتفي بالتوصيف، بل يتجاوز ذلك إلى معالجة الجذور البنيوية لاختلال تعاملنا مع الوقائع التاريخية، مقترحًا نمطًا بديلًا للقراءة التحليلية السليمة.
الحدث المعاصر كنقطة انطلاق لتفكيك المنهج:
ينطلق المقال من ملاحظة أن حدثًا معاصرًا ومحوريًا، مثل الوحدة اليمنية، الذي شَهِدَه الجيل الحاضر بكل تفاصيله، تحوّل إلى ساحة للتأويلات المتناقضة. هذا التناقض لا يُفسَّر بنقص في المعلومات، بل بطرائق القراءة التي تتوزع بين:
الاصطفاف الأيديولوجي،
الانحياز العاطفي،
التأويل الرغبوي،
والبحث الانتقائي لدعم المواقف الذاتية.
ويُظهر هذا الواقع أزمة أعمق من مجرد اختلاف في وجهات النظر؛ إنها أزمة في منهجية التلقي وفهم الأحداث.
من المعاصر إلى التاريخي – أزمة الوعي الممتد:
يتساءل الكاتب: إذا كان التعامل مع حدث قريب يعاني هذا الكم من التشويش والتحريف، فكيف بالتعامل مع أحداث مضى عليها قرون؟
هذا التساؤل ينقلنا من مشكلة التوثيق اللحظي، إلى أزمة أعمق في بناء الوعي التاريخي للأمة.
ويؤكد أن فشل الأمة في الحاضر والمستقبل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسوء قراءتها لماضيها، فكل مشروع نهضوي لا يرتكز على فهم نزيه ودقيق للتاريخ، سيكون معرضًا للفشل، والتكرار، والدوران في دوامة الماضي.
وفي هذا السياق، يرى الناشط- علا عبدالله- أن الدكتور -عبدالوهاب الحميقاني- قد لخّص الواقع اليمني بكلمات دقيقة، مؤكدًا أن القراءة السليمة للواقع تُعد خطوة محورية لفهم جذور الأزمات التي تعصف بالبلاد، وصياغة حلول فعّالة تتناسب مع تعقيداته. ففي ظل صراعات سياسية وأزمات اقتصادية وكوارث إنسانية، يصبح الفهم العميق والشامل للواقع ضرورةً لبناء مستقبل أفضل.
ويضيف: أن أهمية هذه القراءة تكمن في كونها مفتاحًا لأي تغيير حقيقي، إذ تُبعدنا عن الحلول الوهمية، وتقرّبنا من بناء دولة عادلة تُنصف جميع أبنائها.
ومن هذا المنطلق، يشدد الأستاذ -علاء -على أن مستقبل اليمن مرهون بقدرة أبنائه على قراءة واقعهم بعين العقل والضمير، لا بعين المصالح الضيقة والانتماءات الفئوية.
أنماط القراءة المغلوطة التي تُزيّف الحقيقة:
يعرض المقال أنواعًا من القراءات المغلوطة للتاريخ، ويحللها بدقة:
قراءة “عين الرضا”: حيث يُختزل التاريخ في رواية الطرف الذي نؤيده، فتتلاشى الموضوعية.
القراءة الأيديولوجية: حيث يُفسَّر التاريخ وفق الانتماء السياسي أو الحزبي، فيُشوّه لصالح الاصطفاف.
القراءة الرغبوية: حيث يُلوى عنق الحدث ليتوافق مع أمنيات القارئ.
القراءة الانتقائية: التي تُفتّش في الوثائق لا للفهم، بل لإثبات رأيٍ مسبق.
القراءة الساذجة: التي تختزل الحدث في خطٍ واحد، متجاهلة تعقيداته وتشابكاته ومفارقات أطرافه.
تفضي هذه القراءات إلى وعي زائف وإنتاج مشوّه للذاكرة، ما يُؤسّس لحاضر ملوّث ومستقبل هش.
ويشير الكاتب -صالح يوسف- إلى أن مقال” الدكتور الحميقاني “يسلّط الضوء على جوهر الأزمة اليمنية، والمتمثل في سوء قراءة الواقع وأزمة الثقة. فالواقع اليمني اليوم بالغ التعقيد، تتشابك فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسط غياب للرؤية الوطنية الجامعة.
ويضيف: إن البعض من السياسيين، والإعلاميين، والمجتمعيين يتعاملون مع الواقع من زاوية مصالحهم الخاصة، لا من منطلق المصلحة العامة. فبعض القوى السياسية تفسّر الأحداث بما يخدم وجودها، فـ”الحل الوطني” هو ما يتوافق مع رؤيتها، و”المؤامرة” هي ما يعارضها، حتى لو كان في صالح المواطن.
أما الإعلام، فقد تحوّل إلى أداة للصراع والتضليل، بينما انجرف بعض المثقفين خلف رؤى أيديولوجية أو فئوية، مما أفقد المجتمع صوت العقل والتحليل الموضوعي.
نحو قراءة تاريخية نزيهة ومعرفية:
يدعو المقال إلى تبني قراءة تحليلية موضوعية، تُجسّد شروط الباحث الحقيقي عن الحقيقة، وتتمثل هذه القراءة في:
التجرد من الأهواء والانحيازات المسبقة.
تجاوز الرؤية الثنائية والمبسطة للأحداث.
الاحتكام إلى أدوات البحث والتحقيق المعرفي.
الاعتراف بتعدّد الأطراف وتشابك العوامل.
إدراك أن كل حدث يحمل في طياته مفارقات ومصالح، ولا يمكن احتواؤه في سردية واحدة مطلقة.
بهذه القراءة وحدها يمكن الانتقال من تزييف التاريخ إلى توظيفه بوعي في بناء الحاضر وصناعة المستقبل.
الحاضر مرآة الماضي – والوعي شرط للبناء
يختتم المقال بدعوة واضحة وصريحة: إن أردنا بناء واقع سياسي واجتماعي واقتصادي متماسك في اليمن، فلا بد من البدء بتحرير وعينا من القراءة المشوّهة للتاريخ.
فالتاريخ ليس ماضٍ منتهٍ، بل هو أحد مكونات الهوية والفكر والتوجه، ومن دونه لا يُمكن فهم الحاضر، ولا تشكيل المستقبل.
خاتمة
يُقدّم هذا المقال نموذجًا فريدًا للكتابة التاريخية التحليلية، يتجاوز فيه السرد العاطفي والدعائي، ويؤسس لفكرٍ مسؤول وعقلٍ نقدي.
دعوة الكاتب إلى القراءة المتأنية، المتعددة الأبعاد، تشكل ضرورة ملحّة في زمنٍ تتكاثر فيه الروايات وتغيب فيه الحقيقة.
إنها ليست مجرد دعوة لإعادة قراءة حدث الوحدة اليمنية، بل هي دعوة لإعادة قراءة الذات التاريخية للأمة، بعيدًا عن الرغبة، والانفعال، والانحياز.