تقارير ومقابلات

دراسة جديدة:حرب دماج إعاقة للحوار الوطني وإفشال المرحلة الانتقالية بتهديد وحدة الدولة

مركز دماج
مركز دماج

مع تفجّر جولةٍ جديدة من الصراع بين الحوثيين والسلفيين في محافظة صعدة في اليمن، تتضافر جملةٌ من العوامل التي تهدّد مسار العملية الانتقالية، وتضع مزيدًا من العراقيل أمام مؤتمر الحوار الوطني الذي على الرغم من تمكّنه من تجاوز بعض القضايا الخلافيّة، فشل حتّى الآن في التوصّل إلى توافقٍ على مسائلَ جوهرية مثل شكل الدولة، وعدد الأقاليم، وقضايا العدالة الانتقالية، ومن ثمّ الوصول بالعملية السياسية إلى غايتها في تحقيق استقرارٍ سياسي في ظلّ نظام حكم تعدّدي، يسمح بمعالجة النزاعات المركّبة في المجتمع – من مذهبية ومناطقية وقبلية وطبقية – ووضع البلد على طريق التنمية والتحوّل الديمقراطي.

سياقات الحرب في صعدة

تقع محافظة صعدة – معقل الحوثيّين – في شمال اليمن على الحدود مع المملكة العربية السعودية. وتحتضن المركز العلمي للسلفية التقليدية التي أسّسها الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في منطقته المعروفة بدماج. وقد تعايشت مدارس السلفية لسنوات مع مراكز الزيدية التي يدين بها الحوثيّون، وكان يديرها الشيخ مجد الدين المؤيدي. لكن، بعد وفاة الشيخين وسيطرة الجماعات المسلّحة الحوثية على صعدة، شهدت المنطقة مواجهاتٍ عديدة كان هدفها دفع السلفيين إلى مغادرة دماج، بعد اتّهامهم باستقطاب تكفيريّين من دولٍ أجنبية.

يبلغ عدد سكّان دماج نحو 15 ألف نسمة، يعيش حوالى أربعة آلاف منهم في المركز العلمي، وغالبيتهم من الأجانب. وهم في الأصل لا يميلون إلى التدخّل في السياسة، ويرفضون الخروج على النظام الحاكم (سلفية علمية كما تسمّى). إلّا أنّ المواجهات العسكرية في المنطقة دفعت العديد منهم إلى التدرّب على حمل السلاح والمشاركة في القتال. استدعت حرب الحوثيّين في دماج، بروز جماعاتٍ سلفية جهادية مسلّحة جديدة، فضلًا عن استقطاب الصراع بعض أفراد تنظيم القاعدة، بحسب تقارير إعلاميّة.

بعد استيلائهم على صعدة، دخل الحوثيّون في مواجهاتٍ مع مختلف قطاعات المجتمع المحلّي؛ لفرض سيطرتهم عليها، فتمكّنوا من إضعاف دور القبيلة، ودخلوا في عداءٍ مع المشايخ، فجرى اتّهامهم بتصفية رموز قبليّة مهمّة مثل الشيخ عبد الرحمن ثابت. دفعت هذه التجاوزات قبائل حجة والجوف وعمران وصنعاء، إلى إنشاء تحالفات بهدف منع توسّع الحوثيّين عسكريًّا. كما أدّت  محاولات الحوثيين تحييد القبائل القويّة مثل حاشد وبكيل، إلى جانب استهداف السلفيين في دماج، إلى نشوء  حلفٍ قبليّ – سلفي ضدّهم، برزت أهميته في المواجهات الأخيرة.

ميزان القوّة العسكرية في حرب دماج

على الرغم من وجود ثمانية معسكرات للجيش اليمني في صعدة، يعدّ وجود الدولة في هذه المحافظة في العموم رمزيًّا؛ لأنّ معظم هذه المعسكرات، إمّا محاصر، أو خالٍ من القوّة البشرية، أو تتحكّم الخلافات بين قادتها بسبب توزّع ولائهم بين الرئيس هادي والرئيس السابق علي عبد الله صالح، ما يجعل الوجود العسكري الفعلي في المحافظة مقتصرًا على الحوثيين وخصومهم من القبائل والسلفيّين.

1.    الحوثيّون

تتوزّع القوى الحوثيّة على مجموعة حركات مختلفة فيما بينها سياسيًّا – وإن كانت متّفقة مذهبيًّا – وهي حركة مسلّحة أسّسها بدر الدين الحوثي وابنه حسين عام 2004. ويقودها منذ مصرع الأخير شقيقه عبد الملك الحوثي. تقدّر بعض التقارير عدد مسلّحي حركة الحوثي ” بنحو 10 آلاف مقاتل، ثلثهم على الأقلّ تدرّب تدريبًا عاليًا، وتُجنّد غالبيتهم من مناطقَ ترتفع فيها معدّلات الأمّية. ويجري الاعتماد على طبقة الهاشميين لتدريب قيادات لهؤلاء المقاتلين وتوفيرها.

على الرغم من وجود منافسين زيديّين لها، تسيطر هذه الجماعة على محافظة صعدة، وتدير أمور الحكم فيها مباشرةً. ولها نفوذ كبير في القطاعين المدني والعسكري من خلال “طبقة” الهاشميين الأكثر تعليمًا والحاضرين أيضًا في الوظائف القيادية في المؤسّستين المدنية والعسكرية. وفضلًا عن ذلك، تحظى الجماعة بدعم قطاعٍ لا بأس به من قيادات المؤتمر الشعبي الحاكم سابقًا؛ نتيجة الخلافات بينه وبين شركائه في الحكم بعد خروج رئيسه علي عبد الله صالح من الحكم وفقًا للمبادرة الخليجية في 2011؛ فقد بات من الواضح أنّه منذ أن غادر سدّة الحكم، تتمحور إستراتيجيته حول دعم كلّ ما من شأنه أن يمنع الاستقرار في ظلّ حكم عبد ربّه منصور هادي وحكومة الوحدة الوطنية، وباختصار، إفشال المرحلة الانتقاليّة.

تعدّ جماعة الحوثي بمنزلة جيشٍ صغير مدرّب ومنظّم، يمتلك مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسّطة والخفيفة، ولديه مصانع إنتاج حربي في صعدة، ومخازن في المدن الرئيسة بما فيها العاصمة صنعاء. وقد تمكّن عبد الملك الحوثي من إعادة تأهيل مطار المحافظة في صعدة، ليكتمل له بناء قوّة عسكرية مؤثّرة، وتأمين حكمٍ ذاتي. ويحصل الحوثي، بحسب معظم المصادر، على دعمٍ كبير من إيران التي تسعى إلى تكرار تجربة حزب الله في لبنان؛ عبر خلق كيانٍ سياسي – عسكري داخل الدولة اليمنيّة، يكون بمنزلة ذراع نفوذ إيراني في جنوب شبه الجزيرة العربية.

2.    السلفيون والقبائل

يسيطر الحوثيّون على معظم الجبال المحيطة بدماج. أمّا السلفيون، فيسيطرون على جبل البراقة، وهو أعلى قمّة في المنطقة. من هذا الجبل يمكنهم استهداف منطقة رحبان التي تقيم فيها معظم القيادات الميدانية الحوثيّة، وتقطنها غالبية الأسر الهاشمية. خلال السنوات القليلة الماضية، توسّعت جبهات القتال بين السلفيين والقبائل من جهة، والحوثيّين من جهةٍ أخرى. وأَنشأت القبائل فيما بينها “تحالفات الضرورة” في المناطق ذاتها التي استهدفها الحوثيّون، بل شكّلوا حزامًا عسكريًّا خانقًا على صعدة. إلّا أنّ ضعف تسلّح القبائل مقارنةً بالحوثيين جعل من قدرتها على فرض نوعٍ من الحصار العسكري والاقتصادي الفعّال على معقل الحوثيّين، أمرًا صعبًا. وأهمّ الجبهات والتحالفات التي أنشأتها القوى السلفيّة والقبائل لمواجهة الحوثيين في صعدة، هي:

جبهة دماج في صعدة: وهي جبهة مشتعلة. وتتكوّن من السلفيين وبعض القبائل؛ مثل قبائل وادعة التي تقيم في مناطقَ مجاورة للمركز السلفي.

جبهة كتاف في صعدة: تقع في الشمال والشرق. وتجمع قبائل من أبناء صعدة وبعض التنظيمات السلفية والجهادية. تشكّلت في أوّل حربٍ للحوثيّين على دماج، وهدأت، ثمّ عادت للاشتعال مع تجدّد القتال مؤخّرًا.

جبهة حوث في عمران: تقع في الجنوب على خطّ صنعاء. تشكّلت بعد استهداف الحوثيّين المعقل الرئيس لشيخ مشايخ حاشد الأحمر.

جبهة كشر في حجة: تقع في الغرب على امتداد ميناء ميدي. وهي جبهة هادئة نوعًا ما منذ انتهاء المواجهات بين القبائل والحوثيّين عام 2011، لكنّها بدأت تتحرّك بعد استهداف معهد دماج العلمي الذي يديره الشيخ يحيى الحجوري المنتمي إلى قبائل المنطقة.

جبهة الجوف: تقع في شرق صعدة وجنوبها. وهي هادئة نسبيًّا، منذ انتهاء جولة حرب عام 2011. وهي تمثّل خطّ حماية للجوف ومأرب النفطيّتين.

جبهة بني حشيش وحرف سفيان: تشكّل الحزام الأمني للعاصمة صنعاء. ولا توجد فيها مواجهات بين القبائل والحوثيّين، على الرغم من تنامي القوّة المسلّحة للحوثيّين فيها منذ انتهاء الحرب السادسة مع الدولة في عام 2010، ووصولهم إلى هاتين المنطقتين.

المشهد السياسي المحيط بحرب دماج

يسعى الحوثيّون الذين اختاروا توقيت تفجير هذه المعركة مع السلفيين في منطقة دماج في صعدة، إلى تحقيق جملةٍ من المكاسب السياسية والعسكرية تبلغ في حدّها الأعلى عتبة التهرّب من تنفيذ التزامات مؤتمر الحوار؛ وأهمّها تسليم السلاح الثقيل والمتوسّط للدولة، ونبذ العنف، والاندماج في العمل السياسي، والقبول ببسط سيادة الدولة على جميع أراضيها. أمّا في الحدّ الأدنى، فيسعى الحوثيون كما يبدو إلى إفراغ عاصمتهم صعدة من الخصوم. ويحاولون في الوقت عينه رفع سقف المطالب للقبول بمخرجات الحوار الوطني؛ ومن أهمّها المشاركة في الحكم من خلال نوعٍ من المحاصصة تمكّنهم من الحصول على مناصبَ مدنية وعسكرية بما فيها منصب نائب الرئيس بعد تشكيل مجلس رئاسي، ودمج ميلشياتهم المسلّحة في أجهزة الجيش والشرطة.

ولتحقيق أهدافهم من الحملة العسكرية على دماج، حاول الحوثيون الاستفادة من جملة ظروف محلّية وإقليمية مواتية؛ أهمّها قرب انتهاء ولاية الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومة الوفاق، وتفشّي الخلافات السياسية بين النخب الحزبية الحاكمة، والتي تُبرز حال التنافر بين قادة الحكم السابقين والحاليّين وأثرها في مجمل الأوضاع الأمنيّة والسياسية في البلاد، فضلًا عن الاستفادة من حالة الضعف والاستنزاف التي تعاني منها الدولة لزيادة رقعة سيطرتهم وإضعاف القبائل القويّة في حجة والجوف وعمران. أمّا إقليميًّا، فيحاول الحوثيون الاستفادة من التقارب الإيراني – الأميركي، وسكوت واشنطن عن تدخّل ميليشيات شيعية مدعومة من إيران في الصراع الدائر في سورية، واستغلال التباينات بين السعودية وأميركا، وبين السعودية والحكومة اليمنية، وانصراف جهد بعض القوى الإقليمية والدولية تجاه إضعاف تيّارات الإسلام السياسي بما فيها التيّار السلفي الذي استفاد من ظروف ثورات الربيع العربي، وصولًا إلى حدّ تصوير حربهم في هذا الإطار ضدّ السلفية في دماج، وكأنّها جزء من الحرب التي تخوضها واشنطن على الإرهاب في اليمن وعموم المنطقة والعالم.

مآلات الحرب في دماج

تنذر الحرب بين الحوثيين والسلفيين في دماج بالتطوّر وفقًا لاحتمالاتٍ مختلفة، أهمّها:

تَمكُّن الحوثيين من السيطرة كليًّا على دماج، ومن ثمّ التخلّص من آخر خصومهم السياسيين والفكريين في محافظة صعدة. لكن هذا الاحتمال ضعيف في ظلّ موازين القوى الراهنة والتحالف الواسع الذي نشأ بين السلفيين والقبائل؛ لاحتواء الحوثيين ومنعهم من التوسّع والانتصار.

الدخول في حرب استنزاف طويلة تتحوّل خلالها صعدة إلى جبهة جديدة لتجمع المسلّحين من الجهاديين في مواجهة الحوثيين المدعومين إيرانيًّا، ما يهدّد بتوسّع بؤرة الصراع وانزلاق البلاد نحو المزيد من العنف والفوضى وتراخي قبضة الدولة، ومن ثمّ فشل عملية التحوّل الديمقراطي.

التوصّل إلى تسوية ينسحب بموجبها الحوثيّون من دماج، ويعودون إلى طاولة الحوار الوطني دون شروط؛ خوفًا من تنامي الاستقطاب الطائفي في عموم اليمن والمنطقة، ما يقلب موازين القوى لغير مصلحتهم.

التوصّل إلى تسوية ينسحب بموجبها الحوثيّون من دماج، ويعودون إلى طاولة الحوار الوطني في مقابل مكاسب معيّنة؛ مثل الحصول على حكمٍ ذاتي، ومناصبَ رفيعة في الدولة وأجهزتها المختلفة. على أن يستتبع ذلك قبول الحوثيّين بمتطلّبات الحوار الوطني ونتائجه؛ وأهمّها تسليم السلاح، وبسط سلطة الدولة في صعدة، والمضيّ بخريطة التحوّل الديمقراطي نحو غاياتها.

لقد أيقظت المواجهات الأخيرة بين الحوثيّين والسلفيين في دماج في محافظة صعدة، كلّ المخاوف بشأن المصير الذي ينتظر اليمن في حال الاحتكام إلى منطق القوّة والخروج من دائرة الحوار الوطني في بلدٍ يعاني أصلًا من تناقضات لا يعدّ تجاوزها أمرًا يسيرًا. إنّ ستّ جولات سابقة من الصراع بين الحوثيين من جهةٍ والدولة والقبائل من جهةٍ أخرى، لم تؤدِّ إلّا إلى سفك الدماء ودفع اليمن نحو مزيد من الفوضى والبؤس. ربّما حان الوقت ليقبل جميع الفرقاء بتسوية وطنية شاملة لا تقصي أحدًا، وتقوم على مبدأ العيش المشترك في دولة المواطنة والقانون. ويجري التوصّل إلى ذلك عبر مؤتمر الحوار الوطني الذي يجب أن يسهم الجميع في إنجاحه.

نقلاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى