من معاني الطوفان
بقلم / د. محمد جميح
الطوفان مفردة ذات إيحاءات كارثية بأبعاد دينية وأسطورية، إيحاءات أبعد من تلك التي تحملها مفردة أخرى مثل: “فيضان”، حيث الاشتقاق اللغوي للطوفان من الجذر الثلاثي “طو ف” التي تعني إحاطة الماء وشمولية الغمر، في حين أن “فيضان” هو مصدر مشتق من الجذر “ف ي ض” الذي يشير لوجود حدود معينة للماء، رغم فيضانه عنها.
وتتحدث سرديات الثقافات القديمة عن غضب الإله على أهل الأرض، بسبب الفساد والعصيان، وعن الحاجة إلى الماء لتطهير الأرض، وتهيئتها لأجيال غير فاسدة، ولهذا جاء الطوفان الذي وإن أدى لدمار عالم، إلا أنه هيأ الفرصة لميلاد عالم جديد، كما ورد في ثقافات قديمة مثل الهندوسية والإغريقية وقصص بلاد الرافدين، وفي الكتاب المقدس والقرآن الكريم.
في كلمة محمد الضيف القائد العام لكتائب عز الدين القسام – الجناح العسكري لحركة حماس، في السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023 أعلن انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، في رد فلسطيني على “الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى، واعتداء المستوطنين الإسرائيليين على المواطنين الفلسطينيين، في القدس والضفة والداخل المحتل”، حسب كلمة القائد العسكري لحماس.
ويأتي هذا الإعلان، ليعكس الأبعاد الدينية التي وردت في عبارة: “الانتهاكات الإسرائيلية في باحات الأقصى” والأبعاد الوطنية الواردة في عبارة: “اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين على المواطنين الفلسطينيين”، وكان لافتاً قصدية ربط “الانتهاكات” بإسرائيل، في مقابل ارتباط “الأقصى” وجدانياً بفلسطين، تماماً، كما برز “الاستيطان” سمة إسرائيلية واضحة، فيما “المواطنة” معنى فلسطينياً خالصاً، مع تضمينات إيحائية تشير لكون حالة “الاستيطان” الإسرائيلية طارئة، في مقابل حالة “المواطنة” الفلسطينية الأصيلة.
وهنا تبدو مفردة “طوفان” – في “طوفان الأقصى” – ذات دلالات دينية عامة، لكن إضافتها إلى مفردة “الأقصى” خصصت لها دلالات دينية إسلامية، حيث يمثل الأقصى في الإسلام “أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”، تماماً، كما أن إضافة مفردة “طوفان” إلى الاسم العلم “نوح” – في التسمية التاريخية “طوفان نوح” – حمَّلها الكثير من التداعيات السياقية الدينية التي يحيل عليها اسم العلم “نوح” بوصفه نبياً من الأنبياء، مع انفتاح الدلالة على أبعاد كارثية مرعبة.
وإذا كان هناك من يرى بأن “طوفان نوح” كان فقط في منطقة معينة، فإن هناك إجماعاً على أن “طوفان الأقصى” قد عمَّ الأرض بالفعل، على مستوى الآثار والنتائج والتداعيات، وإعادة صياغة السياسات والمفاهيم والأفكار والتأويلات الدينية والعلاقات الدولية والمعادلات والتوازنات، بل وهناك من يرى ضرورة مراجعة السرديات التاريخية، في ضوء الأحداث الجارية.
إنه طوفان، لأنه خرج عن الحدود الجغرافية لغزة المحاصرة، رغم كونها تدفع الثمن الأكبر لهذا الطوفان، وهو طوفان، لأنه كسر المعالم والحدود والمعايير والمقاييس والادعاءات والشعارات، وأسقط الكثير من المقولات على جوانب مختلفة. فعلى الجانب الإسرائيلي فُقدت المنظومة الأخلاقية والدعائية والصورة النمطية الإيجابية التي بنتها إسرائيل لنفسها خلال عقود، تماماً كما جرف الطوفان كثيراً من ملامح الصورة النمطية للغرب ومنظومته القيمية.
وإذا كانت السفينة قد “استوت على الجودي”، بعد انتهاء “طوفان نوح” فإنه ربما كان من المبكر التنبؤ بـ”الجودي” الذي ستستوي عليه سفينة العالم اليوم، في مرحلة ما بعد “طوفان الأقصى”
أعاد الطوفان صياغة تعريف الصراع الذي جرت خلال العقود الماضية محاولات لإخراجه عن سياقاته الدينية والحضارية، بين الشرق والغرب، إلى أبعاده القومية بوصفه صراعاً عربياً إسرائيلياً، ومن ثم اختصار المختصر إلى كونه صراعاً فلسطينياً إسرائيلياً، ثم صراعاً إسرائيلياً غزاوياً، وأخيراً انتهى إلى كونه صراعاً بين الديمقراطية والحداثة من جهة والإرهاب والأصولية من جهة أخرى، قبل أن يأتي هذا الطوفان الذي أعاد الاعتبار لمفاهيم ومصطلحات محددة، أريد من خلالها جعل المقاومة إرهاباً، وتصدير الاحتلال دولة تنتمي لـ”العالم الحر”.
كشف الطوفان الجذور الدينية للصراع، وأظهر سيادة الاتجاهات الأصولية في المجتمع الإسرائيلي، وعلى مستوى الحكومة والكنيست، وسيطرة المتطرفين الصهيونيين على الحياة السياسية والدينية في دولة الاحتلال، وجرف في طريقه دعاوى “الديمقراطية الإسرائيلية”، و”إسرائيل، واحة الرخاء والسلام”، و”الجيش الذي لا يُقهر”، وأظهر افتقار إسرائيل لعوامل البقاء دون دعم غربي وأمريكي، وأكد الطوفان على حقيقة أن الهدف من إقامة دولة إسرائيل، ليس تعويض اليهود عما لحق بهم من مظالم تاريخية في أوروبا، ولكن الهدف نفعي لا علاقة له بالقيم، قدر ما له علاقة بالمصالح التي سوغت عبارات من مثل: “لو لم توجد إسرائيل لكان على أمريكا اختراعها”، حسب تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يدعو لوقف إطلاق النار، ويستمر في تزويد إسرائيل بالسلاح، في تناقض عجيب.
كشف الطوفان عن “توحش القوة” لدى الإسرائيليين، ذلك التوحش النابع من خوف وجودي، والمدعوم بنصوص ووصايا دينية تتحدث عن ضرورة تدمير العدو رجالاً ونساء وأطفالاً، وقد تجلى في خطابات بنيامين نتنياهو التي تظهر فيها مصطلحات وإحالات كثيرة للتوراة والتراث الديني اليهودي عن “ضرب عماليق” وإبادتهم، في إشارة إلى أجداد الفلسطينيين، كما تصفهم السرديات الدينية اليهودية التي ركزت منذ القدم على أن “يكون الساحل لبقية بيت يهوذا”، وهو ما لن يكون إلا بـ”الترانسفير” الذي دعا إليه ديفد بن غوريون عام 1948، ولا يمل وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير عن المطالبة به، والذي يراد تنفيذه بتدمير غزة تماماً حتى لا تعود مكاناً صالحاً للعيش، الأمر الذي يتصور معه الإسرائيليون أنه سيدفع أهالي غزة لمغادرتها.
وعلى الجانب الإيراني، هز الطوفان – وإن لم يجرف بعد – السياسات الإيرانية التقليدية في حروب الوكالة التي حاولت طهران حتى الآن الحفاظ عليها بعدم الانجراف للحرب، أو “عدم الوقوع في الفخ”، حسب تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان. ومع ذلك فإن المبدأ الإيراني: “أكبر ربح بأقل استثمار”، هذا المبدأ يتعرض اليوم للاهتزاز، بعد الخسائر الجسيمة التي أصابت الاستثمارات السياسية والدعائية الإيرانية في المنطقة، فيما لا ندري مدى قدرة الطوفان على نقل المعركة إلى الداخل الإيراني، وكسر القاعدة الإيرانية في استمرار استعمال “مصداتها الميليشياوية”، على طريقة “الحرب في العراق وسوريا ولبنان واليمن”، لمنع “الحرب في طهران وقم ومشهد”.
لكن الطوفان – في المقابل – أظهر واقع العرب المر، حيث تتنازع المشاريع المختلفة على أرضهم، وتتنافس على مقدراتهم، دون أن تكون لديهم الكلمة الفصل، أو حتى التأثير على مجريات الأحداث، كما أظهر آثار الانقسامات الطائفية التي كانت من نتائج تغول المشروع الإيراني في المنطقة، والتي استفادت إسرائيل منها بشكل كبير.
جاء في قصيدة بعنوان: مقتطفات من خطاب نوح بعد الطوفان، للشاعر اليمني عبد العزيز المقالح:
“لا سفن البحر ولا الفضاء، تنقذكم من قبضة القضاء، فقد طغى الطوفان، وكان يا ما كان”.
وإذا كانت السفينة قد “استوت على الجودي”، بعد انتهاء “طوفان نوح” فإنه ربما كان من المبكر التنبؤ بـ”الجودي” الذي ستستوي عليه سفينة العالم اليوم، في مرحلة ما بعد “طوفان الأقصى” الذي لا شك أن آثاره ستمتد لعقود قادمة في المنطقة والعالم.