تقارير ومقابلات

“العُقَد الثلاث” – مقال الدكتور العامري- قراءة تحليلية

استشراف لمسارات المصالحة والبناء

الرشـــــــــــاد برس | تقاريـــــــــــــــر في مقاله العميق والرصين، يستعرض الدكتور محمد بن موسى العامري ثلاث محطات مفصلية في التاريخ اليمني المعاصر، وهي ليست مجرد صراعات دامية، بل “عُقَد تاريخية” ما تزال آثارها قائمة، ومفاعيلها مستمرة، وتداعياتها تنخر في جسد الدولة اليمنية حتى اليوم.
هذه العُقَد ليست مجرد ذكريات مدفونة في أرشيف الماضي، بل جراح مفتوحة لا يمكن تجاوزها إلا بشجاعة الاعتراف، وجرأة المصارحة، وحكمة المراجعة. والمقال يحمل في طياته برنامجًا عمليًا متدرجًا للمصالحة الوطنية، ويرتكز على قواعد الإنصاف، والشراكة، والعدالة، مع رؤية استراتيجية لإنقاذ اليمن من دوامة التشرذم والانهيار.
جرح الدم الجنوبي:
في الثالث عشر من يناير 1986، شهدت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (سابقًا) واحدة من أعنف التصفيات السياسية بين رفاق الحزب الاشتراكي. الحصيلة كانت مروعة: آلاف القتلى، وانهيار قيمي، وشروخ اجتماعية عميقة ما تزال حاضرة حتى اليوم بصور متعددة.
يضع الدكتور- العامري -يده على مكمن الخطورة: استمرار استحضار هذا الحدث من قبل بعض القوى كأداة تبريرية أو مشروع انتقام، بدل أن يكون عبرة ودافعًا للمصالحة.
ويشير إلى أن معظم أقطاب تلك الفتنة قد رحلوا أو اعترفوا بخطاياهم، مما يُحتّم على الجيل الجديد إغلاق هذا الملف من بوابة العدالة الانتقالية، لا من بوابة النسيان.
مقترحات المعالجة:
1. الإقرار الجماعي بالكارثة السياسية والإنسانية، وضرورة جبر الضرر للضحايا وأسرهم.
2. تمكين الجنوب من شراكة حقيقية ضمن إطار اليمن الاتحادي المتوازن، دون تهميش أو تفضيل.
3. نفي الاستئثار والإقصاء من العمل السياسي، وتجريم استعادة أدوات الماضي القمعية.
حرب 1994 – إقصاء وخصومة بلا نهاية
اندلعت حرب صيف 1994 بين شريكي الوحدة اليمنية، وانتهت بسيطرة طرف على السلطة بقوة السلاح، ما أدى إلى تركيبة هشة للدولة، قائمة على مركزية جائرة، وشراكة مختلة.
ولا ينشغل الكاتب كثيرًا بمن البادئ بالحرب، بل بما جرى بعدها: الاستحواذ، التهميش، وغياب العدالة. ويشير إلى أن هذه الممارسات فتحت الباب أمام تسلل المشروع الحوثي الطائفي إلى الساحة السياسية، مستفيدًا من الانقسامات والنكايات.
رؤية الكاتب للحل:
1. الاعتراف بغياب الشراكة العادلة في مرحلة ما بعد الحرب.
2. صياغة عقد اتحادي وطني يحفظ التوازن بين الجغرافيا والمكونات السياسية.
3. تحييد أحداث 1994 عن التوظيف السياسي، وفتح صفحة شراكة جديدة تنقذ ما تبقى من الدولة.
ويؤكد الناشط” سالم أبو مازن”: أن مقال الدكتور -العامري- قد وضع النقاط على الحروف، وحدّد المتطلبات التي كان على النظام السابق تنفيذها. ويرى أن من أبرز آثار تلك الحرب تفكيك البنية السياسية والمدنية، وتسريح آلاف العسكريين والمدنيين من أبناء الجنوب، مما ولد شعورًا بالظلم، وأسس لموجة من السخط الشعبي.
ويضيف:”بدلًا من تحقيق لا مركزية الحكم، كرّست نتائج الحرب سلطة مركزية تهيمن على القرار السياسي والاقتصادي، وأقصت المحافظات الجنوبية من المشاركة في صناعة القرار.”
ويتابع: “المعالجات التي طرحها الدكتور العامري تمثل الدواء الحقيقي لتلك الجراح. فلو تم تجاوز تلك السلبيات في حينها، لما وصلت الأوضاع إلى هذا الانهيار الراهن.”
ويختم قائلاً: “تشخيص الدكتور- العامري- في ضرورة البحث عن ضمانات موثوقة لشراكة عادلة، والاتفاق على صيغة مُرضية لشكل الدولة الاتحادية، يشكل حلاً واقعيًا، بعيدًا عن التطمينات الشكلية أو المسكنات المؤقتة التي يمكن التخلّي عنها في أي لحظة.”
ثورة 2011 – حلم تحوّل إلى فوضى
ما عُرف بثورة الشباب اليمنية ضمن موجة “الربيع العربي”، بدأ كحلم بتغيير سلمي وشبابي، لكنه سرعان ما تحول إلى ساحة صراع إقليمي، وانقسام داخلي، وظهور جماعات مسلحة ومشاريع طائفية، تتصدرها مليشيا الحوثي.
ويرى الدكتور- العامري- أن ما جرى لم يكن ثورة مكتملة، ولا انقلابًا صريحًا، بل لحظة انفجار اجتماعي وسياسي، كانت تحتاج إلى عقل جمعي يقودها، لا إلى صراعات جانبية استثمرها الخصوم.
أخطر ما نتج عن هذه المرحلة هو تفكك الجبهة الجمهورية، مما سمح للحوثيين باجتياح الدولة والمؤسسات.
مفاتيح تجاوز العقدة:
1. الاعتراف بالأخطاء من جميع الأطراف، دون انتظار تبرئة أو تصفية حسابات.
2. ترميم الثقة بين المكونات الوطنية، والعمل على خطاب إعلامي جامع، بعيدًا عن الترشق الإعلامي الموسمي.
3. إعادة توحيد المؤسسات السيادية، خاصة العسكرية والإعلامية، واستعادة ثقة الناس بالدولة ومشروعها الجمهوري.
رؤية استراتيجية:
ينهي الدكتور- العامري- مقاله بنداء يستحضر نماذج عالمية ملهمة (كرواندا وأوروبا) وإسلامية (عام الجماعة)، للتأكيد على أن تجاوز الماضي أمر ممكن، بل ضرورة، حين تتوفر الإرادة السياسية، والرؤية الوطنية، والقيادة الشجاعة.
الفكرة المحورية:
المصالحة ليست ضعفًا، ولا نسيانًا، بل ذروة القوة الأخلاقية والسياسية.
المطلوب اليوم هو الانتقال من إدارة الماضي إلى صناعة المستقبل، ومن اجترار الجراح إلى بناء جسور الثقة.
هل من يقظة يمنية؟
إنّ مقال الدكتور العامري – حفظه الله – ليس مجرد سرد تاريخي، بل خارطة طريق للتعافي الوطني، تنطلق من ثلاث محطات ملتهبة في الذاكرة الجمعية، لكنها تسعى لتحويلها إلى منطلقات شراكة لا أسباب شقاق.
ما تحتاجه اليمن اليوم ليس توصيفًا جديدًا للألم، بل قفزة شجاعة نحو حوار وطني جامع، واعتراف متبادل، ورؤية اتحادية عادلة تنهي عهد الفتن وتؤسس لدولة مدنية مستقرة، بعيدة عن الأوهام الطائفية والمصالح الضيقة.
ويبقى السؤال مفتوحًا:
هل تمتلك القوى الوطنية اليوم شجاعة تجاوز “العُقَد الثلاث” كما امتلكت شجاعة إشعالها؟
“قل عسى أن يكون قريبًا…”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى