تقارير ومقابلات

قراءة في مفهوم الأقلية بالقرآن الكريم

الرشاد برس- دراسات وبحوث

«الأقلية» في اللغة ضد «الأكثرية»، و«القِلَّة» في اللغة العربية تقابل «الكثرة»، وهما يدلان على معنى عددي ليس إلا، ومنها القليل، والأقل. وفي القرآن الكريم: {حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن: 24].

ومصطلح «الأقلية» مصطلح شائع في المجالات: العلمية والإعلامية والسياسية، ولم يتم استخدام هذا الاشتقاق بمفهومه المعاصر إلا في القرن العشرين، حيث لم يرد له أي ذكر في مصادر اللغة والتراث. وقد ظهر هذا المصطلح كتعبير سياسي يعبّر عن تكوين عضوي (أصغر) يختلف عن المجتمع الحاضن (الأكبر) عرقياً أو دينياً أو طائفياً. والمصطلح يحمل دلالات وصفية بوجود تباين بالضرورة بين هذا التكوين وذلك المجتمع، وهي حقيقة اجتماعية لا ينكرها العقل السليم في أي بيئة بشرية. ومن ثمَّ فإن طبيعة العلاقة بين العضو (الصغير) والجسد (الكبير) قد تأخذ أشكالاً متعددة من أقصى صور التلاحم والارتباط إلى أقصى صور التنافر والصراع.

ووجود أقلية ما يعني وجود تحديات صعبة تتعلق بالهوية والقانون والاندماج الاجتماعي. لذلك؛ فقد توزعت الدراسات المعاصرة في هذا الشأن على علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة والحضارة والثقافة والوراثة والنفس.

ومن أهم قضايا التصور الإسلامي في العقيدة والدعوة والتشريع، وأوضحها حضوراً؛ مسألة الأقلية الدينية، سواء في إطار التدين مقابل الانحراف، أو في إطار مستوى هذا التدين داخل المجتمع المتدين ذاته. ولأن هذه الحقيقة سنة كونية دائمة، فقد واجه المسلمون في هذا العصر أشكالاً منها، وظهر ما بات يعرف بـ «فقه الأقليات المسلمة» استجابة لنشوء هذه الظاهرة في نطاق واسع.

إن من بين السنن الاجتماعية التي تقابل الأنبياء وورثتهم في كل مرحلة زمنية تعود فيها البشرية إلى درك الانحطاط، هي قلة الأتباع وكثرة المخالفين. لذلك؛ فمفهوم القلة – أو ما يُعبر عنها حديثاً بـ (الأقلية) – مفهوم حاضر ومتكرر في القرآن، وهو يميز لنا البشرية وفقاً لتصنيفها على قيم العلم والإيمان والعمل إلى قسمين: أقلية وأكثرية.

ففي شأن العلم يخبرنا القرآن أن أكثر الناس {لَّا يَعْلَمُونَ} بأكثر من صيغة[1]، وهذا العلم المنفي عنهم هو العلم المتعلق بالرسالة والإيمان والسنن الإلهية والشرائع السماوية، وليس العلم الدنيوي، لذلك يقول تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْـحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24]؛ فغالبية أمم الأرض خلَّفت من العمران والآثار والمعارف ما يدل على أن البشرية تسجل تفوقها في هذا المجال في كل دورة تاريخية تنهض منها: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 6 يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٦- ٧]. وإذا كانت هذه الأكثرية تبني معارفها الدنيوية على اليقين، إلا أنها في شأن الغيب والآخرة تخبط خبط عشواء، وتلتمس الهدى في الظنون: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْـحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36].

وبالرغم من أن رسالات الأنبياء – جميعاً – تتوافق مع مقررات الفطرة وبدهيات العقول، إلا أن البشرية غالباً ما واجهت الرسل بالتكذيب: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٣]، وأنكرت الحقيقة الكبرى:{…أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]؛ وذلك رغم ما أقيم عليهم من البراهين: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا} [الفرقان: 50]. لذلك؛ يسلي القرآن على خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التقرير: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: ٤٤]، {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[2].

وإزاء هذا الإنكار وتغييب العقل، تتفق النتيجة مع المقدمات.. فـ {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس: ٧]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103][3]، وإن آمنوا فـ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. وإذا غاب الإيمان غابت ثمرته (العمل الصالح)، ولم تُستَخْدَم النعم وتوظف الطاقات فيما وهبت لأجله: {وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [النمل: 73]، رغم إقرارهم بنعم الله عليهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83]، ويصدق في الناس قوله سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13][4].

بهذه المقابلة يتحدث القرآن عن الأقلية والأكثرية، وليس في ظل المقاييس العرقية أو الإثنية أو السياسية، إنها الأقلية العالمة والمؤمنة والشاكرة، التي قاومت إغواءات الشيطان: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62][5]، واهتدت بفضل الله تعالى عليها: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلَّا قَلِيلًا}[النساء: 83]، فكانت الناجية في مسيرة الدعوة عبر التاريخ، من لدن نوح الذي: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يقول تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116].

ويقابلها الأكثرية التي: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْـمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]، والتي قابلت الرسالة بالموروث مهما كان زيفه وضلاله: {إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ 69 فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ 70 وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:69-71]، وأبت الاستماع للحق: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 3بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}[فصلت: ٣- ٤]، وكفرت بلقاء الآخرة: {وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: ٨].

وكما يُجري القرآن الكريم مقابلة بين الفئتين في الدنيا، يُجري المقابلة بينهما في الآخرة. فتلك القلة المؤمنة التي استعلت بإيمانها، وقامت بواجبها، واستجابت لنداء الفطرة ودعوة الرسل؛ تجزى بالجنة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ 10 أُوْلَئِكَ الْـمُقَرَّبُونَ 11 فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 12 ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ 13 وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 10-14]، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ 27 فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ 28 وَطَلْـحٍ مَّنضُودٍ 29 وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ 30 وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ 31 وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ 32 لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ 33 وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ 34 إنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إنشَاءً 35 فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا 36 عُرُبًا أَتْرَابًا 37 لأَصْحَابِ الْيَمِينِ 38 ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ 39 وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ}[الواقعة: 27-40]؛ في حين أن تلك الكثرة تواجه اللوم الإلهي: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 60 وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 61 وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60-62]، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْـجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]. إنه الجزاء الوفاق على مواقف هذه الأكثرية التي لم تنتفع بما منحت: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِـجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. وهو الجزاء الذي توعّد الله به إبليس وأتباعه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 82 إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْـمُخْلَصِينَ 83 قَالَ فَالْـحَقُّ وَالْـحَقَّ أَقُولُ 84 لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82-85].

إن القرآن يُفَصِّلُ في بيان موقف هذه الأكثرية الهالكة التي تعددت عليها الحجج والبراهين بما يكفي لهدايتها، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، حين يشير إلى الدافع لتكذيبها بالحق: {بَلْ جَاءَهُم بِالْـحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْـحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70]. لذلك؛ يحذر القرآن الرسول وأتباعه من إطاعة المخالفين للحق وإن كانوا كثرة بقوله سبحانه: {وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116][6]، كما يحذرهم من الاغترار بهذه الكثرة: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْـخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْـخَبِيثِ} [المائدة: 100].

والحكمة في استطراد القرآن لبيان هذه السنة الكونية تتجلى في أمور عدة، منها – والله أعلم -:

– أن في هذا البلاغ المبين لهذه الظاهرة الإنسانية تأكيد للأنبياء وورثتهم على صعوبة المهمة التي يقومون بها، حيث إنها بطيئة النتائج، وقليلة الثمرة، وباهظة التكاليف، لذلك؛ فإن عليهم أن يوطنوا أنفسهم على صور التكذيب والجحود، والسخرية والاستهزاء، والإيذاء والتعذيب، والعدوان والبغي.

ففي شأن التعنت والتكذيب والتشكيك يقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّـمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]، ويقول: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ 23 قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 23-24].

وفي شأن السخرية والاستهزاء يقول تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 10]، ويقول: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ 52 أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52-53].

وفي شأن الإيذاء والتعذيب يقول تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْـحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: ٥]، ويقول: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْـمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].

وفي شأن العدوان والبغي يحكي القرآن مواجهة المرسلين وأتباعهم لبغي أعدائهم كعادة جارية: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

– كما أنَّ فيه تهيئة لنفوسهم، حتى لا يدخل عليهم اليأس والقنوط ابتداء، وهم يرون الأكثرية تعرض عنهم، ظانين أن نجاح رسالتهم أمام الله يقاس بكثرة الأتباع، ما قد يُدخِلُ الحزن والهم في نفوسهم. لذلك؛ جاء الخطاب القرآني للرسول صلى الله عليه وسلم وورثته من بعده بالتوجيه إلى القيام بالبلاغ وترك شأن الهداية لله، يقول تعالى: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إنْ عَلَيْكَ إلَّا الْبَلاغُ..} [الشورى: 48]؛ فقَدَرُ الله الكوني ماضٍ على كل أمة في هداية من يستحق الهداية وغواية من يستحق الغواية: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ 36 إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [النحل: 36-37]. لذلك قيل للرسول الكريم مع حرصه على هداية الناس: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف: 103]، ومع محبته ذلك: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]؛ كما نهي عن الحزن على أهل الضلالة في أكثر من خطاب، فقد قال تعالى في سورة الحجر: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: ٨٨]، وفي سورة النحل: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِينَ 125 وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ 126 وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ 127 إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 125-128]، وفي سورة النمل: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل: 70]. وقد جاء هذا النهي بعد أن بلغ الهم برسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه له مبلغه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْـحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: ٦]، حتى ناقشه ربه في هذا التكلف منه صلى الله عليه وسلم في مطلع سورة الشعراء[7]؛ وكان التفكير أخذ برسول الله مأخذاً عاتبه فيه ربه: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ …} [هود: 12]، وخاطبه في موضع آخر بلغة أشد: {وَإن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَـجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـجَاهِلِينَ}[الأنعام: 35]؛ وجاءت الوصية الإلهية له بالقناعة الواقعية: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]؛ ثم قال: {وَقُلِ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: ٨].

– أن لا يستوحش الأنبياء بقِلَّتهم، أو يشعروا في ظل هذه القلة بالذل والهوان، فيستسلموا إحساساً بالضعف المادي، ويتخلوا عن نصرة دعوتهم.. يقول تعالى مخاطباً الصحابة، وهم يومئذ قليل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 193]، وبشرهم بسنته الكونية: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}[غافر: 51]، وقصَّ عليهم قصة القلة المؤمنة التي ثبتت مع طالوت في جهاده[8]، وتوعد عدوهم بالهزيمة: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْـمِهَادُ 12 قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 12-13]؛ وامتن عليهم بتحقيق هذه السنة في معركتهم الفاصلة مع أعدائهم (يوم الفرقان): {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}… إلى أن قال: {وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْـحَكِيمِ} [آل عمران: 123-126]، والذلة المشار إليها في الآية ذلة العدد كما قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: 26].

– أن يأخذ الأنبياء وأتباعهم لهذه الحقيقة تدبيرها السياسي، بحيث لا يوغلوا في الأماني والأحلام الكاذبة بعيداً عن أرض الواقع، ولا يقوموا بعمل يقضي على وجودهم ودعوتهم في مهدها، ولا يُسْتَفَزُّوا إلى شيء من ذل؛ فهم مطالبون برعاية هذه الحقيقة في تحركهم في الوسط الاجتماعي وعلى الصعيد السياسي بشكل متزن، فلا رهبة وخوف مُقْعِداً، ولا يأس وقنوط مُحبِطاً، ولا تَطلُّع مُتهَوِّراً، ولا تعَجُّل مُهلِكاً، بل سياسة شرعية حكيمة تراعي القدرات والظروف والفرص.

ومن المؤسف أن بعضاً ممن يتصدر لتوجيه العمل الإسلامي يخطئ في فهم مسيرة الأنبياء الدعوية ومنهجهم الحركي، حيث يقوم بقراءة التكاليف الحركية الشرعية منفصلاً عن عدة أمور، منها:

– الإمكانات والقدرات التي امتلكها الرسل وأتباعهم عند مخاطبتهم بأي تكليف خوطبوا به، حيث إن التكليف الإلهي لعباده منوط بالقدرة والاستطاعة، يقول تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وفي شأن الإيمان يقول سبحانه:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٦٦].

– الظروف والبيئة التي أحاطت زمن قيام التكليف، فالخطاب الإلهي راعى هذا الجانب، فأوامر المولى تعالى للبشر واقعية، تلامس الأحوال والأوضاع التي تحيط بالمكلفين، كما تراعي التغير فيها، يقول تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]، ويقول: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187].

– المقاصد والغايات التي شرعت لها هذه التكاليف، وهذا يتطلب قدراً من فقه مآلات الأمور ومدى تطابق النتائج مع هذه المقاصد والغايات. ولنتأمل قول الله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَّقِينَ 7 كَيْفَ وَإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ 8 اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 9 لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُعْتَدُونَ 10 فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 11 وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ 12 أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 13 قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:7-15]؛ نرى كيف يأتي التكليف في إطار المقاصد العادلة والغايات المشروعة.

– الشروط الموضوعية التي يأتي التكليف في ضوئها، فلا يجوز بتر الخطاب الشرعي بعضه عن بعض، وعن الرؤية الكلية للدين بجوانبها وأبعادها النفسية والإنسانية والسننية، وعن الضوابط والمعايير التي يجب أن تتوافر في نموذج التطبيق البشري لتلك التكاليف، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِـمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: 94].

– صيغة القيام بهذا التكليف، وهي غالباً صيغ اجتهادية في هذا الباب، حيثُ يُتركُ للفئة المؤمنة فرصة التشاور وتدبير الأمر تربية لها على القيام بمسؤوليتها اعتماداً على الذات وأخذاً بالأسباب واستناداً للخبرة والمعرفة والمهارة، حيث يخلط البعض بين التكليف وبين صيغة القيام به، فيحيل الصيغة إلى تكليف (إلهي) ظناً منه أنَّ صُور حركة الجماعة المسلمة للقيام بمصالحها توقيفية بالأصل! وهذا ما يشير إليه توجيه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

– اعتبار عامل الزمن في تحقيقها، ذلك أن أي تكليف مرتبط بزمن بالضرورة، فهناك تكليف مضيق وآخر موسع، وآخر آني أو مشروط. وتضييق البعض للموسع جلب على الأمة النكبات وأوقعها في المطبات، وتوسيع المضيق عند آخرين فوت عليها الفرص وكرس من حالة الانهيار الذي تعيشه والسقوط الذي تنحدر فيه.

وفي العموم، فالقرآن الكريم مصدر ثري في تكييف علاقة القلة بالكثرة، باعتبار أنه معني بالدرجة الأولى بضبط إيقاع حركة الفئة المؤمنة –وهي القلة دائماً – في الحياة بجميع صورها، وفي كل جوانبها، ومع كل تحولاتها وتقلباتها، حفاظاً عليها من الذوبان وصيانة لها من التآكل وسعياً بها إلى البقاء والنمو.

وقد قدم القرآن للرسول الكريم وأتباعه سجلاً حافلاً بالخبرة والأسوة للقلة المسلمة في القديم، بنماذج متعددة، وظروف مختلفة، ومعطيات متباينة، لكي يتيح لهذه الأمة أكبر قدر من الثراء في النظر والتفكير فيما يلائمها خلال مسيرتها التي ستمتد قروناً حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

والقرآن ابتداء يبطل النظرة الوضعية التي تميز الأقلية في ضوء الجنس والعرق واللغة، بل يراها –في نسقها الطبيعي – عامل إثراء ودليلاً على القدرة الإلهية، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً…} [النساء: ١]. ثمَّ يخبر سبحانه أن التنوع الذي حصل في اللغات والأعراق إنما هو بفعل مشيئته سبحانه للتدليل على كمال قدرته: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِـمِينَ} [الروم: ٢٢]، ومقتضى ذلك تقبل هذا التنوع والاختلاف الكوني والتعامل معه في ضوء الحكمة الإلهية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، لذلك نهى عن كل ما يثير هذه النظرات العنصرية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الحجرات: ١١].

وسنة الله تعالى في الدعوات أن يبعث الأنبياء في أقوامهم، وبني جنسهم، وبلغتهم، ملتحمين معهم في حياتهم وعيشهم، وذلك أدعى للقبول وأبعد من اتخاذ الناس الاختلاف في الجنس أو العرق أو اللغة تبريراً للرفض ومتكأً للإعراض – كما هو منظور البشر الوضعي -. لذلك لمــــا كان موسى – عليه الصلاة والسلام – من بني إسرائيل، وهم في منظور فرعون وملئه دخلاء على أرض مصر، اتهمه الملأ بالتآمر على أهل مصر لإخراجهم، وجعل فرعون من هذه التهمة متكأً لعدوانه على موسى ومن معه: (قَالَ المــَلَأُ مِن قَومِ فِرْعَونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِن أَرْضِكُم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ؛ وقال فرعون: آَمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آَذَنَ لَكُم إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي المــَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنهَا أَهْلَهَا فَسَوفَ تَعْلَمُونَ)[9].

والمتأمل في الخطاب الإلهي إخباراً وتكليفاً واعتباراً، يرى مدى اعتبار ميزان القلة والكثرة في مسيرة التدافع والصراع الدائم بين الحق والباطل والصلاح والفساد والعدل والظلم والخير والشر.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.



 

:: نقلاً من مجلة البيان العدد  


[1] انظر: الأعراف: 187، يوسف: 21، 40، 68، الروم: 6، 30، السجدة: 38، سبأ: 28، غافر: 57، الجاثية: 26، الأنعام: 37، الأنفال: 34، يونس: 55، القصص: 57، الدخان: 39، النمل: 61، السجدة: 75، 101، الزمر: 29.

 [2] المائدة: 103؛ وانظر: العنكبوت: 63.

 [3] ويقول تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]، الرعد: 1؛ ويقول سبحانه: {… وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} الشعراء: 67، و103، و121، و139، و158، و174، و190.

 [4] يقول تعالى: {… وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} البقرة: 243، يوسف: 38؛ ويقول: {… وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [يونس: 60]، وفي المقابل يخبر سبحانه: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} الأعراف: 10، المؤمنون: 78، السجدة: 9.

 [5] لقد تجرأ الشيطان في الإعلان عن حقده لبني آدم سالكاً في غوايتهم كل السبل: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ 17 قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّـمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:17-18].

 [6] وقد أكد المعنى ذاته قوله تعالى: {وَإنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 199].

[7] الآيات: 1- 9.

[8] في سورة البقرة.

[9] الأعراف: 109- 123.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى