أحَدَ عَشرَ كَوكباً !
كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل ..وكنتُ أرْقُبُ الجدل المُحتدِم حول قرار الفصل السابع الذي صَدَرَ منذ ساعات عبر صفحات الفيسبوك.
كانت الكهرباءُ قد انطفأت في الواقع منذ العاشرة صباحاً , وكان المُوَلِّد الكهربائي الصغير يَئِنُّ في الحديقة بعد أن تمَّ مَلءُ خَزّانِهِ مَرّتين بالبنزين خلال الأمسية الصاخبة بالجَدَل , المُوْحِشة بصوت المُوَلّد الذي يُعطي لِلّيل نكهةً بطعمِ البارود , ربّما لأنّ سماع الانفجارات ارتبط في أذهاننا طوال ثلاث سنوات بانطفاءات الكهرباء وسماع صوت المولّد الراجف .. وما يزال المسلسل مستمراً كل ليلةٍ صاخباً مُوْحِشاً راجِفاً.
يشتعلُ الجَدَلُ حامياً في الفيسبوك بين أصدقائي مُلوكِ الليلِ بلا مُلـْـك حولَ وَضْعِ اليمن تحت الفصل السابع بين مؤيّدٍ ومُعَارض. وتتعدّد أسبابهم والموت واحد . بينما أهْمِسُ في سِرّي: المهم ألّا يكون الوطن في فصل أحد : بالوراثة أو بالسرقة .. سابقاً أو لاحقاً ! وفي لحظةِ قَرَفٍ أغلقتُ الفيسبوك في وَجْهِ مُلوك الليل جميعاً , وخرجتُ إلى الحديقةِ أتفقّدُ المُولّد المسكين قَبْلَ أن أسأل الحارس عن سبب الانطفاءة الطويلة .. قال : إنّ مجموعةً من عُمّال ومهندسي الكهرباء يصلحون عطلاً في المحوّل الضخم نهاية الشارع منذ العاشرة صباحا .
كانت الثانية بعد منتصف الليل تماماً حين وصلتُ موقِعَ المُحوِّل المُعطّل. وكان الحارس طوال الطريق يحاول أن يُقنعني بضرورة أن يعود ليأخذ بندقيته لأن المسافة أطول مِمّا قـَدَّرَ وفي هذه الساعة المتأخرة !.. وفي الواقع أنه لم يكن قد فطِن إلى مغزى خروجي في تلك الساعة. كان المغزى من خروجي في تلك اللحظة هو التأكد من أن أحداً يُصلح شيئاً في ليلِ صنعاءَ المُدلهمَ الغامض , فقد عَوَّدَنا زمانُنا التوافقيُّ بالطريقة اليمنية أن يتفق الجميع على عدم مسؤولية الجميع ! وبالتالي فقد تساءلت : من تـُرَاهُ سيقوم بواجبه في هذه الساعة الباردة قبيل الفجر !
لم تكن المفاجأة أنني وجدتُ العُمّال والمهندسين في ذروة عملهم فحسب , بل كانت المفاجأة في شيءٍ آخر لم يخطر لي على بال أو حتى في خيال ! وعندما عدت أدراجي إلى المنزل منتشيا أذرَعُ الطريقَ بالأمل الواثق , والمسافة بالعنفوان السامق , كنتُ غَيْرَ ذاك الذي خرج قبل قليل مُشتـّتاً بسَفْسَطات الفيسبوك , دائخاً بعوادم النخبة السياسية الخائبة , مُروّعَاً بأوادم أركان الدولة السائبة !
تحت وابلِ مطرٍ خفيف , وجُنحِ ظلامٍ كثيف لَمَحْتُ وُجوهَ العُمّال البسطاء الذين هَبّوا للسلام ما إن وقفت بينهم. قلتُ : تعملون في هذه الساعة ! وبين كابلات الكهرباء الخطرة .. ما أروعكم في هذا الليل البهيم ! هذا واجبنا “قال أحدهم بحسم وهو يتأمل ورقة قات في يده. قلت : أريد أسماءكم لو تفضلتم حتى أطلب لكم مكافأة مُجزية من إدارة الكهرباء. رَدَّ صَوْتٌ ساخِرٌ من أعلى الوِنـْـش الذي كان يُعلِّق المُحوِّلَ الضّخم : يخلـّونا في حالنا هذه أكبر مكافأة !..حاولتُ أن أبتسم ! وفجأةً تقدَّمَ شابٌّ بابتسامةٍ عريضةٍ وهو يقول : يا أستاذ خالد .. هذا واجبنا ! نحن عُمّال ومهندسي الكهرباء نعمل على مدار الساعة مثل فعاليات صنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004 !.. قلتُ وقد أدهشتني المقارنة : واجبي أن أكافئكم حتى بعشاء بسيط وسط هذا البرد القارس !.. ومرة أخرى يَرُدُّ المهندسُ الظريفُ مِنْ أعلى الوِنـْش بخفّةِ دَمٍ صنعانية أُحِبُّها : مِتـْعشيّين يا إستااااذ ! إدّي له أسامينا يا احماااد ! نتشرّف بمعرفتك يا أستاذ لكن لك وحدك ! لا تدّيهاش لحدّ ! خلّيها على الله بس !
كانوا أحد عشر مُهندِساً وعاملاً . لعلّهُم الأحدَ عشرَ كوكباً الذينَ قَصَدَهُمْ محمود درويش في قصيدته الشهيرة !
هذا هو الشَّعبُ الذي أعرِفُهُ وأنتمي إليه . هذا هو الشعب الذي أحِبُّهُ وأراهن عليه. بينما تُصِرُّ النخبة الخائبة على رَهْنِهِ وارتهانِهِ .. ولكنْ هَيْهَات !
في طريقِ العَوْدة للمنزل كنتُ قد امتلأتُ بما لا أقدِرُ على وصفه. اكتشافٌ قديمٌ جديدٌ يُعيدني إليَّ في كل مَرَّة. ثمّة ما يُضيءُ دائماً. رغم الأتربة والظلام ثمّة جوهرةٌ تتلألأ ! وليسَ مِنْ جوهرةٍ سوى هذا الشعب. فَحّامُونَ كُثرٌ مَرّوا وذهبوا .. وبـَقيـَـت الجوهرةُ ساحرةً آسِرةً .. ومُنتظِرة ! تنتظرُ مَنْ يَجْلُو بَهاءَها فَحَسْب !