مقالات

تزييف.. دعوة تحرير المرأة!

ناصر يحيى  كاتب صحفي
ناصر يحيى
كاتب صحفي

من أسوأ ما واجهته حركة استنهاض الأمة وتخليصها من أغلال التخلف والاستعمار؛ هو تزييف جوانب مهمة من وسائل هذه النهضة، وتحويرها من أسباب وآليات للنهوض الحضارية على أسس صحيحة إلى حركة هدم وتخريب ومروق عن الهوية الحضارية الإسلامية للأمة!

ودعوة “تحرير المرأة” هي إحدى هذه الحركات التي أصيبت بهذا المرض؛ من خلال تزييف أهدافها واعتماد وسائل وآليات خاطئة لتحقيقها، وتحولها إلى خنجر مسموم في قلب الأمة بدلاً من أن يكون عامل نهضة حقيقية، وصراعاً بين تيار التقليد والجهل بمقاصد الإسلام، وتيار الإصرار على جعلها وسيلة للانقلاب على الهوية الإسلامية والتبرؤ منها ومن كل ما يتصل بها! ولم يكن التهاب ذلك الصراع غريباً في المجتمعات الإسلامية لأسباب عديدة؛ منها أن المستعمر دخل في الخط مؤيداً لتيار التغريب وداعماً له؛ مما قوّى من شكوك الرافضين للفكرة ومخاوفهم منها! وخاصة مع ظهور تأثيرات الغزو الفكري التي بدأت تثمر في المجتمعات العربية والإسلامية: انهزامية شديدة تجاه الغرب وافتناناً بحضارته دون تمييز بين الإيجابي والسلبي، ونفوراً وكرهاً تجاه الهوية الإسلامية للأمة وكل ما جرى في تاريخها، بوصف الأولى عنواناً للرقي والتقدم والحرية.. وبوصف الأخرى علامة على الجمود والتخلف والجهل!

وتبادل الطرفان مزيداً من النفور والعداء بسبب التشخيص الخاطئ لدعوة تحرير المرأة، وازداد الأمر مع مشاركة أفراد من غير المسلمين، ودخول نظريات سياسية وفكرية عدائية مغالية في ماديتها، ودعوتها لقطع دابر الدين من أساسه بوصفه رأس البلاء وسبب التأخر والجهل والفقر! وبسبب الحالة السيئة لواقع المجتمعات الإسلامية، وضعف أنصار الهوية الإسلامية: فكرياً وعملياً؛ فقد تمكنت الدعوة لتحرير المرأة (بالمفهوم الغربي) من تحقيق انتصارات حاسمة في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، وتسيّد أنصار الفكرة المحافل العلمية والثقافية والإعلامية، وفرضوا وجهة نظرهم مدعومين بالسلطات الرسمية الحاكمة في معظم البلدان!

ŸŸŸŸŸ

اتسم هذا المنحى المتطرف في التغريب والعلمنة المتبني لحركة تحرير المرأة بسمات مشوهة كانت ثمرة لتشوه الأصل الذي نشأ عنه؛ ونقصد ارتكازه على فكرة خاطئة بأن السبب في سوء حالة المرأة هو الدين وليس ممارسات المسلمين وتفسيراتهم الخاطئة له. ولذلك كان طبيعياً أن تتسم حركة تحرير المرأة بغرائب ومتناقضات؛ منها أن صار خلع الحجاب والنقاب، وتقليد المرأة الأوربية في لباسها وسفورها هو أحد مطالب حركة تحرير المرأة، والتي كان من أبرز مالآتها حدوث قطيعة اجتماعية ومفاهيمية مؤسفة (ومختلفة نسبياً من بلد إلى آخر) مع البعد الإسلامي الاجتماعي والقيمي.. وعلى سبيل كان غريباً أن أول ما عملته المصرية هدى شعراوي (التي توصف برائدة تحرير المرأة) عند عودتها من الخارج أن خلعت حجابها أمام مستقبليها! وكأن الحجاب هو العدو وليس التخلف أو الاستعمار والاستبداد المحلي.. وغرابة هذا الفعل يمكن ملاحظته في أن الحجاب والنقاب المنتشر بين المصريات آنذاك لم يحل دون مشاركتهن في أحداث ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني.. كما لم يفعل ذلك في بلدان أخرى.. وكما حدث – خلال السنوات الماضية- في ثورات الربيع العربي.. وكما كان قد صار من قبل – أي الحجاب والنقاب- رمزاً لثورة الإيرانيين والإيرانيات ضد نظام الشاه المستبد العلماني المرتبط بالاستعمار العالمي!

في حادثة أخرى؛ لها نفس الدلالة، كان من الأعمال الملفتة للنظر التي قام بها الديكتاتور التركي العلماني كمال أتاتورك تجهيزه لباخرة سياحية كبيرة، وضع فيها مجموعة من الفتيات التركيات، وجالت بهن الباخرة على موانئ أوروبا للبرهنة على أن المرأة التركية قد نالت حريتها بعد القضاء على الدولة العثمانية، ولتحقيق الهدف فقد كان برنامج الرحلة يقتضي أن تظهر الفتيات التركيات في أوضاع مختلفة على سطح الباخرة عند دخولها الموانئ وهن بملابس البحر المثيرة؛ قطعتين صغيرتين فقط! (نشرت مجلة أكتوبر المصرية مع حدوث الانقلاب العسكري في تركيا عام 1980صورة إرشيفية للباخرة في إطار تغطيتها للحدث الذي كان مرحلة من مراحل العداء للحركة الإسلامية التركية حينها بزعامة البروفسور نجم الدين أربكان!).

وفي بلدان إسلامية أخرى لم يكن المفهوم السائد لحركة تحرير المرأة مختلفاً عما حدث في تركيا وتونس من بعدها؛ إلا في أساليب العنف والإجبار الذي اتسمت بهما! لكن بصورة عامة صار تحرير المرأة عنوانا مناقضاً حتى للإسلام الوسطي كما يوصف، وصار الحجاب منكراً وجريمة قانونية من بلد إلى آخر! وصار الحكام يتطيرون من ظهور الحجاب على رؤوس الفتيات من الأجيال الجديدة التي ظنوا أنهم قد نجحوا في تشكيلهم وفق ما يريدون! وكان الأشد نكاية لهم ملاحظة أن النقاب وليس الحجاب فقط صار سائدا في الجامعات، وفي الكليات العلمية منها خاصة! وهكذا انقلبت الصورة خلال أقل من قرن واحد، تحول الانتصار الذي ظن أعداء الحجاب والنقاب أنه حاسم ونهائي إلى انتكاسة إن لم نقل هزيمة في حالة لاحظنا أن الانتشار حدث في حالات عديدة في مواجهة استنكار مجتمعي في البداية، وتحت طائلة القانون، وإرهاب الدولة ومؤسساتها وإعلامها فضلاً عن أن يكون بدعم أو بتشجيع منها، أو بالقوة الناعمة للمجتمع!

•••

من مظاهر الانحراف في توجيه حركة تحرير المرأة وجهتها الصحيحة؛ ما اتسمت به التجربة في بعض البلدان الرأسمالية التي ظهرت فيها تنويعات شاذة مثل معاداة الرجل، والنضال من أجل التخلص من سيطرته.. ومن ذلك تناسلت دعوات شاذة ترفض تمييز المذكر عن المؤنث في اللغة مثلاً.. حتى احتجت إحداهنّ في مؤتمر من مؤتمرات الجندر على كون لفظ الجلالة (الله) لفظاً مذكراً بما يوحي بالتمييز ضد المرأة! وبعضهم تساءل غاضبا من وجود: ذكر وأنثى في الطبيعة وعدم وجود جنس واحد فقط مفسراً ذلك بأنه تمييز جنسي.. وثانية وصفت حكاية ابن النحوي الشهير أبي الأسود الدؤلي مع ابنته التي أخطأت في إعراب “ما أجمل السماء” بأنه نوع من التمييز ضد المرأة! وثالثة وصفت ورود لفظة الإناث نكرة والذكور معرفة في الآية القرآنية: “يهبُ لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور” بأنه تعظيم للرجل وتحقير للمرأة! ورابعة فسرت تبعية الأدب النسوي لسلطة الأدب الرجالي بأنه نابع من “الرجال قوّامون على النساء”.

ولعل القارىء الكريم يتذكر ما كتبناه في ذكرى وفاة د. عبد الوهاب المسيري عن ملاحظاته عن حركة تحرير المرأة كما عرفها أثناء دراسته في أمريكا، وكيف وصل الأمر إلى تغيير الكلمات التي تدل على الأنوثة مثل كلمة (women) لتصير (womyn).

لم يكن انتصار التوجه العلماني في حركة تحرير المرأة المسلمة انتصاراً حقيقياً، فلا يمكن أصلاً أن تتحقق حرية حقيقية للإنسان في مجتمعات القهر السياسي والاستبداد، والديكتاتورية بكل أنواعها، ولا يمكن أن تتحقق للمرأة حرية حقيقية (إلا إذا كانت من نوعية حرية تخفيف الملابس!) في ظل نظام سياسي يحكم بالحديد والنار، ويحتكر السلطة والثروة، ويقتل الإنسان فيه لأقل شبهة معارضة للحاكم، ولو بمجرد نكتة يطلقها احتجاجاً على وضع سيء في البلاد! ولأن الأنظمة اليسارية كانت هي الأكثر زعيقاً في الحديث عن حرية المرأة؛ فقد كان جارحاً لتلك المنجزات أن المرأة نفسها عانت أشد المعاناة ايضاً.. فهي الزوجة التي اعتقل زوجها عشرات السنين لأنه معارض للنظام! وهي الأم التي خطفوا من أحضانها ابنها لأنه لا يعرف كيف يصفق أو يهتف لأضاليل السلطة! وهي الابنة التي نشأت ولم تعرف أباها لأن خفافيش الظلام وزوار الفجر أخذوه في ليلة ولم يعرف مصيره أبدا بعدها! وفي بلدان عديدة لاقت المرأة المهتمة بمجتمعها مصير الرجال في الاعتقال والتعذيب والهوان.. في الوقت نفسه الذي كانت وسائل الإعلام الرسمية تتحدث عن حرية المرأة والمنجزات التي تحققت لها!

وفي كل الأحوال عانت المرأة من التجارب الاقتصادية الفاشلة، وحرمت من رجالها لأنهم فضلوا أن يهربوا عبر الحدود ويعيشوا في بلد آخر يشعرون فيه على الأقل بإنسانيتهم بعد حرموا منها في بلاد الشعارات! وفي كثير من الحالات اضطرت المرأة هي الأخرى للهجرة من وطنها لتعيش في بلاد الله بعيداً عن جنة الحقوق المزعومة!

أكتب هذه المعاني وأنا ألاحظ هذا الإصرار على تزييف معنى حرية المرأة، والمبالغة في الحقوق التي حصلت عليها في بعض الأنظمة اليسارية السابقة.. فلا حرية للمرأة في مجتمع ديكتاتوري لا يعترف بحرية مواطن أن يفتح فمه ليقول: لا!

من المفيد الإشارة إلى أن عدداً من كبار الثوريين العالميين استفادوا من قوانين الشريعة الإسلامية حاربوها ووصفوها بالظالمة للمرأة وأقصد بالتحديد: تعدد الزوجات فلولا هذا التشريع الإسلامي لما كان ممكناً لهم أن يتزوجوا الزوجة الثانية ويحتفظوا في الوقت نفسه من باب الوفاء بالزوجة الأولى أم الأولاد ورفيقة أيام الكفاح والشدة والفقر، ولو كانوا في مجتمع آخر لاضطروا إما للطلاق أو للزواج سراً! كذلك استفاد بعض النسوة من سن الزواج المنخفض مثل زوجة الرئيس المصري السابق التي تزوجته وفي عمر الـ16 سنة.. وتتهم بأنها اشترطت عليه تطليق زوجته الأولى.. والشاهد أنه عندما صارت زوجة الرئيس عملت على إصدار قانون للأحوال الشخصية مثير للجدل كان أبرز عناوينه: رفع سن زواج الفتاة.. وجعل تعدد الزوجات شبه جريمة يحق بموجبها للزوجة تطليق زوجها! وهناك أديب عربي مشهور أزعج الدنيا بدفاعه عن المرأة المظلومة، وتسفيه الحجاب والنقاب ثم عندما حصحص الزمن ترك زوجته أم الأولاد وتزوج فتاة صغيرة في عمر بناته!

نقلاً من موقع المصدر اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى