حقيقة الصراع في إفريقيا الوسطى
من قلب القارة الإفريقية، من بانجي، تتعالى صرخات المظلومين، وتسيل جراحات المكلومين، وتُزهق أرواح الأبرياء من المسلمين على أيدي النصارى بدعم من الغرب الصليبي.. فها هي فرنسا التي انطلقت منها الحملات الصليبية ضد أهل الإسلام، والتي تضطهد المسلمين في بلادها – بلادِ «العلمانية الإيجابية»[1] كما سماها ساركوزي –، ناصرةُ البابوية عبر التاريخ بقيادة زعمائها الكاثوليك بلا استثناء؛ ها هي تجوس خلال ديار المسلمين باسم حفظ السلام. وتلك الكنيسة الرومية الصليبية التي دعمت التنصير في إفريقيا منذ القرون الوسطى، تتباكى على «شهدائها» في إفريقيا الوسطى. بينما تحاول «التيوس المستعارة» – أعني بعض «المحللين» السياسيين – إغراقنا في لجج التحليلات السياسية الباردة لصرف هذه المعاناة والجرح المسلم النازف عن أسبابها العقدية التي لن تُدرك أبعاد القضية دون إدراكها.
غير أن هؤلاء الباردين الذين لفح وجوههم هجير «المكيفات»، بينما ينعم إخوانهم في «بانجي» بحرية التدين (!!!)؛ لا يحدثوننا عن رؤية الغرب النصراني لهذا الصراع وتحليله له إلا من خلال مصادر تلقيهم هم.. حينها يحق لنا أن نتساءل: هل حقاً ينظر الغرب النصراني إلى هذه الأزمة باعتبارها مجرد فوضى أمنية وخلاف سياسي على الزعامة، أم أنه يتعامل معها باعتبارها امتداداً لحرب عقدية؟
هذا ما يجيبنا عنه معهد جيتستون (Gatestone Institute) الذي يتخذ من مدينة نيويورك مقراً له. وبحسب تزكية «الاتحاد الأوروبي» له فإنه «خزانةٌ فكريةٌ، يرأسها «جون بولتن»، الممثلُ الدائم الأسبق للأمم المتحدة»[2].
في الثالث من فبراير من العام الحالي نشر هذا المعهد مقالاً بعنوان «جمهورية إفريقيا الوسطى وتوغل الإسلام جنوباً»[3].كاتب المقال هو «لورنس فرانكلين»، كاثوليكيٌّ إيرلندي وعقيد سابق بالملحق العسكري الأمريكي في «إسرائيل»، ومسؤول الشؤون الإيرانية في وزارة الدفاع الأمريكية إبان حكم الرئيس بوش الأب، كما أنه باحث دكتوراه في الدراسات الآسيوية. فما عسى هذا العسكري الأكاديمي أن يقول عما يجري في جمهورية إفريقيا الوسطى؟
يبدأ الكاتب مقاله بوصف دوافع الخلاف في إفريقيا الوسطى والأطراف المتنازعة وردود الأفعال، فيقول: «عندما قام ثوار سيليكا المسلمون في جمهورية إفريقيا الوسطى باقتحام الجنوب لانتزاع العاصمة «بانجي»، وخلعوا الرئيس النصراني «فرنسوا بوزيزيه» في شهر مارس من عام 2013؛ لم تلقَ الحادثة كبير عناية في الإعلام الغربي. لكن الجانب الذي لا يريد الإعلام أن يراه هو أن هجوم تحالف سيليكا يخدم بلا قصد هجمة واسعة من قبل متطرفين مسلمين لتوسيع دائرة النفوذ الإسلامي إلى قلب دول إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى».
فالنزاع وفقاً لهذا «الدبلوماسي» ليس إلا محاولة من قبل جماعات إسلامية متطرفة لفتح البلاد غير المسلمة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى؛ «فانتزاع السلطة من قبل تحالف سيليكا المسلم – إذا ما دُرس في سياقه التاريخي – يؤكد النشاط المستمر للتنافس الشامل في إفريقيا بين النصرانية التبشيرية [التنصيرية] والإسلام الجهادي».
ثم يستمر الكاتب ليقدم لنا خلفية تاريخية عن أسباب توقف الفتوحات الإسلامية في وسط إفريقيا، وكيف أن الطبيعة الجغرافية حالت دون اكتساحها من قبل الفاتحين كما حصل لدول الشمال الإفريقي. كما أن الجماعات الإثنيَّة الإفريقية في الكونغو وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى قاومت الزحف القادم، لا سيما بعد أن تلقت الدعم من قبل الكنيسة الكاثوليكية في روما منذ القرن الخامس عشر.
هذا ما يقوله الكاتب، ولسنا في معرض الرد على مزاعمه، فبعض ما قال حق وبعضه باطل؛ لكن الأهم من هذا إصراره على التفسير العقدي لما يجري على أرض بانجي من أحداث، خلافاً «للمعتدلين» من قومنا. بل إنه لا يكتفي بإسقاط هذا التفسير على أحداث بانجي فحسب، بل يوسع دائرة التحليل العقدي ليشمل ما حصل ويحصل في جنوب السودان ومالي.
يقول عن مالي مثلاً: «إن الظهور الأخير لمالي على الصعيد الدولي لِتكون مسرحاً للتغلغل الإسلامي، هو أيضاً دليل على عودة الدور التاريخي الذي لعبته تلك البلاد في عملية نشر الإسلام؛ فقد لعبت الدويلات المالوية المسلمة في القرون الوسطى دور الوسيط بين العرب والبلاد الجنوبية. وأمر شريف مكة بإرسال علماء وأئمة إلى مالي لبناء المساجد ونشر الدين[الإسلامي] في إفريقيا».
ثم تطور الأمر – وفقاً للكاتب – إلى محاولةٍ لطمس الهوية الإفريقية لتحل محلها الهوية الإسلامية؛ لكن الذي أعاق الحماس المتجدد لنشر الإسلام في إفريقيا عاملان رئيسان: «أولهما: سرعة استعمار القارة الإفريقية من قبل القوى الإمبريالية الأوروبية المتنافسة. والعامل الآخَر: حقيقة أن حملة التنصير التي قادتها الفاتيكان في وسط وجنوب إفريقيا كانت أساساً متيناً لما بعدها».
ولا تزال الفاتيكان مستمرة في تقديم الدعم لمن يمثلها في إفريقيا الوسطى، بل إفريقيا كلها. ونحن الآن نرى أن «البابا فرنسيس قد جعل التنصير في قمة جدول أعماله ليغيّر وجه الكنيسة الكاثوليكية.. إنه ينتظر من رجال الدين أن يخدموا هدفه الأهم ألا وهو نشر الدين [النصراني].. وأساقفته الأفارقة سيدفعون بقوة من أجل نشر الإنجيل، وسيقومون بذلك رغم المعارضة العنيفة من قبل المتطرفين المسلمين، فدماء الشهداء الكاثوليك وغيرهم من النصارى تسفك في إفريقيا».
خلاصة القول عند الكاتب «أن الصراع الديني من أجل القارة [الإفريقية] مستمر، والتنافس على كسب المعتنِقين، والقتال من أجل الهيمنة الروحية؛ واضحٌ بشكل وحشي في بلدانٍ إفريقية عديدة».
أقول: إن ما جرى من فصل جنوب السودان، وتدمير المساجد في أنجولا، والتدخل العسكري الفرنسي في مالي وفي جمهورية إفريقيا الوسطى؛ لَينذر بخطر عظيم يتمثل في محاولة محو الأقليات الإسلامية في إفريقيا وإحياء النصرانية الصليبية فيها، والتمدد من خلالها لتنفيذ مخططهم في تنصير القارة الإفريقية.
وسيكون التعامل مع هذه الدول باعتبار وضع المسلمين فيها: فإن كانوا أقلية في مقابل أغلبية نصرانية فالأصلُ القضاءُ على الهوية الإسلامية تماماً؛ وإن كان المسلمون أكثرية لُجِئ إلى ادّعاء «المظلوميات» والمطالبة بالحقوق، وقد يتطور الأمر إلى الاستقلال كما وقع في السودان، وقد يقع في مصر. وإن تعادلت نِسب النصارى والمسلمين افتعلت الفتن لتتدخل قوات حفظ السلام – وإن شئت فقل «قوات حرب الإسلام» – التي لن تبرح الأرض حتى تحل هذه «المعادلة» المستعصية.