وقفات مع مناهج العلم والتزكية
الرشادبرس_ مقالات
بقلم د/محمد بن موسى العامري _ رئيس الهيئة العليا لإتحاد الرشاداليمني
تحتل أعمال القلوب ، من الخشية ، والرجاء ، والتوكل ، والإنابة ، والمراقبة ، واليقين ، والإخلاص ، ونحوها ، مكانة عظيمة ، في توجيهات القرآن الكريم، والسنة النبوية ، وسير المصلحين ، وعليها مدار الصلاح ، وقبول الأعمال ، و ترجيح الموازين ، والتفاضل بين الناس ، ولأنّ أعمال القلوب مكنونة ، غير منظورة ، فإنّها غالباً ما تتعرض للإهمال ، والإنشغال عنها ، لذا كانت العناية بها محورية باعتبارها مبعث التدين الحق ، وعليها مدار النجاة في الآخرة ( * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ *) وبفقدانها أوضعفها ، تتوارد العلل والآفات ، والسلوكيات المعوجة ، لدى عامّة الناس ، وخاصتهم – بيد – أنّ الإخلال بها لدى الخاصة ومتصدري العلم والدعوة ، المأمول فيهم العناية بمعالجة الأمراض القلبية ، أشد ضرراً ، وأسوأ عاقبةً ، لتولد الآفات وتعديها إلى غيرهم !
يا معشرَ القراءِ يا ملحَ البلد ٠٠٠٠٠ ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟ .
فالتحاسد ، والتدليس ، والتباغض ، وسوء الظن ، والكراهية ، واحتقار الآخرين ، وغياب العدل ، والفجور في الخصومات ، ودفن محاسن الآخرين والتكلف في البحث والتنقيب عن العيوب ، – جميعها – مظاهر فتاكة تدل على خلل كبير في مفهوم التدين ، ومراقبة الضمير وإصلاح النفس وتطهيرها ، وتفشي أمراض القلوب ، وإذا كانت مستقبحة من عامًة الناس فكيف بها من خاصتهم ؟ .
وهنا بعض الإشارات :-
أولا:- التزكية بالقرآن .
إن عدول كثير من المتصدرين للتوجيه ، عن التزكية القرآنية ، والاستعاضة بغيرها من السبل ، مزلق خطير، وزهد في منبع الهداية الرباني ( أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ ۚ) فلا زكاة النفس ، ولاطهارة لها ، إلا من جهة خالقها ، وباريها ، وماسوى ذلك من المصنفات في مجال تزكية النفوس ، فالمحمود منها قليل ، وكثير منها مشحونة بالمفاهيم الخاطئة ، والمعاني المعتلة ، لعزوفها عن صفاء الوحي ، عملاً وتعليماً ، ( تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ ۖ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤْمِنُونَ )
ثانياً :- التزكية بالسنة .
وتأتي السنة النبوية وما صح منها في المنزلة الثانية بعد كتاب الله باعتبارها وحياً من الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ، وهي مليئة بالتوجيه والإشارات إلى رعاية أعمال القلوب وتزكيتها وربط التشريعات والأحكام بتقوى الله عز وخشيته ، ( ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ ) ويتصل بالسنة النبوية أنموذجها التطبيقي ، وهم صحابة إمام المعلمين و المربين – عليه الصلاة والسلام – ومن شهد التنزيل بسلامة قلوبهم واستقامتها فنالوا بذلك رضا الله سبحانه ، ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )
ثالثاً :- التزكية .
1- انتشار الأفكار المادية ، وطغيانها على القيم الروحية في عموم مسارات الحياة ، مخلفةً ظاهرةً من اختلال التوازن في النشاط البشري ، حتى فشت كثير من الأمراض النفسية ، من الاكتئاب والهموم والأحزان والقلق ، وأنواع الإضطرابات ، وصولاً إلى مراحل متدهورة من تعاطي المسكرات والمخدرات ، إلى جرائم التعدي على النفوس والإنتحارات ، ولهيمنة التيارات المادية في الحضارة الغربية المعاصرة برزت إلى السطوح تيارات روحية ، كردود أفعال كما حصل في عصور خلت – بعد القرون المفضلة – من تنامٍ للطوائف الطرقية الروحية ، باختراع محاضن معزولة عن زخارف الحياة ، ( ورهبانية ابتدعوها ) ، بعيدة عن صفاء الوحي – كتاباً وسنة – بسبب التنمر المادي وسلطانه آنذاك .
ومثل ذلك تناسل الفرق والطوائف الباطنية ، و الشيعية ، وتعددها ، بحثاً عن الإشباع الروحي بمعزل عن الوحي وهدايته ، وذهاباً إلى تقليب المواجع التأريخية ودعاوى المظلوميات العاطفية ، لسد مجاعات الروح لدى أشياعها ، وتعويضهم بمخترعات من الطقوس ، والأهازيج والترانيم الوجدانية الحزينة المشحونة ، بثوران من البراكين العمياء ، وتوظيفاتها السياسية لتشفي غليلها وأضغانها من عداوات عمدت إلى هندستها بالأوهام والأساطير وحولتها إلى معتقدات ومسلمات ! .
2- الإهتمام بمظاهر التدين ، مع اهمالٍ ملحوظ لرقابة النفس ، وإصلاح السرائر ، واعتبار النشاط ، وتغليبه في ظواهر السمات عنواناً على الإلتزام ، والإنتماء لبيئة المتدينين ! لأنّه أقل كلفة من مجاهدة النفوس ، والترقي في مدارج السالكين ، فترتب على هذا المسار خلل بنيوي في التكامل بين العلوم المعرفية والسلوكية ، وضعف التوازن بين العلم وثمراته ، والترابط بين الظاهر والباطن ، ونتج عن ذلك مخرجات شوهاء ، ظاهرها رحمة وباطنها عذاب ، تعجبك المظاهر ، وتخونك المخابر ، مولعة بتصنيف الناس وتتبع مثالبهم وبالجدال والخصومات ، مع القريب والبعيد على حدٍ سواء .
3- العناية بميادين الإستقطابات ، والتنافس الحزبي، والسياسي، تماشياً مع الموجهات الشعبوية ، الثورية ، وحرصاً على التعجل في قطف الثمار واستبطاءً للتكاليف الشاقة في عملية البناء الإيمانية الممتدة ، وترتب على ذلك الجنوح ، تغليب المناشط الحركية ، بغرض التحشيد للمكاسب الرقمية ، باعتبار ذلك أهم عامل للتميز الإنتاجي ، فسخرت الإمكانات والجهود ، إلى فنون الكسب والمهارات والإقناع والتأثير ، وحصد المزيد من الثروة البشرية والأتباع ، على حساب أولوية البناء التزكوي القرآني ، وتولد عن ذلك كثير من المخرجات التي لاتعكس المصداقية الحقيقية للسلوك الإسلامي الأصيل ، ووظفت بعضٌ من الفنون والمهارات في الأماكن الخاطئة باغتيال الوضوح وامتهان التلون والمرواغات وأنواع الحيل والمخاتلات ، التي يترفع عنها ذوو المروءات والتدين الصادق .
رابعاً :- التعليم .
1- علوم القرآن.
فالقرآن في كثير من المحاضن ، تتجه فيه الأولوية إلى تحقيق الأداء والتعمق في مخارج الحروف وكثرة الإجازات ، والمقامات وتنوع القراءات ، وذلك – على أهميته – خلاف الطريقة المثلى التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعلم ومعرفة التفسير والمعاني والعمل ، قال أبو عبدالرحمن السُّلمي :- حدَّثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القُرآنَ أنهم كانوا يستَقرِئون من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فكانوا إذا تعلَّموا عَشْرَ آياتٍ لم يُخلِّفوها حتى يعمَلُوا بما فيها من العمل؛ فتعلَّمنا القُرآن والعملَ جميعًا ، ولهذا جاءت المؤكدات في غير ما آية على التدبر والعمل بالقرآن ، وحينما حصل التباين بين السلف ، والخلف ، في مناهج التزكية ، لم يعد مستغرباً أن تكون بعض مخرجات القراء وسلوكياتهم ، تتنافى مع تعاليم القرآن ، وفي سنن أبي داود والمسند ، ما يشير إلى تغير الحال في التعامل مع القرآن ، بين سلف الأمة وخلفها ، يقول جابر رضي الله :- خَرجَ علَينا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ نقرأُ القرآنَ وفينا الأعرابيُّ والأعجَميُّ، فقالَ: اقرَءوا فَكُلٌّ حسَنٌ وسيَجيءُ أقوامٌ يقيمونَهُ كما يقامُ القِدْحُ يتعجَّلونَهُ ولا يتأجَّلونَهُ ، وبنحو هذا وردت آثار كثيرة .
2- علوم العقيدة .
لبّها ، وأساسها ، تعميق معاني أسماء الله وصفاته ، ومعرفة آثارها الإيمانية ، وحقوق الله على عباده ، وماله سبحانه من التبجيل والعظمة ، والخشية ، والرجاء ، وإفراده بأنواع العبادات دون غيره ، وغرس ذلك في النفوس خلافاً لمن حول علوم الإعتقاد إلى منطلقات للجدل والتنازع حول أقاويل الفرق ، والانشغال بعلم الكلام وأقيسته العقلية وتحكيمه في قضايا الغيب ، التي مجالها الوحي والتسليم ، فأهملت الأصول في علوم الإعتقاد لصالح الإهتمام بالفرضيات الجدلية ، والمباحث الكلامية .
ذلك أن الأصل – كما في الكتاب العزيز – هو تقرير مسائل الإيمان ودعوة الخلق إلى التحلى بها وأما جانب الردود فهو استثناء يؤتى به للحاجة متى ما دعت الى ذلك ، وتولد من انصراف بعضهم ، عن منهجية الوحي – كتاباً وسنة – سلسلة من الإضطرابات ، والشكوك ، ثمرتها قسوة القلوب وفسادها بدلاً من لينها وصلاحها .
3- علوم الحديث
الحديث النبوي يعني الوقوف على معالم السنة النبوية ، والعلم بمراد رسول الله صلى عليه وسلم ومعرفة السياقات ، وأسباب الورود بتحقيق الروايات والأسانيد ، لمعرفة صحيحها من سقيمها ، وليس من علم الرواية والدراية ، مجرد السباق للحصول على الإجازات والتكثر بها ، ناهيك عن المسالك الخاطئة في فهم قواعد وتطبيقات أئمة الجرح والتعديل ، التي نشأت لمقصد التوثيق وحماية السنة من الأحاديث المدخولة ، وهو مسلك دقيق وحميد ، مُيّز به بين صحيح الأحاديث وضعيفها ، وليس من ذلك الوقوع في العلماء والدعاة ، وأنواع السباب والمشاتمات ، وسائر التجنيات ، تحت ذريعة الجرح والتعديل !وشتان بين مسلك السلف والخلف في ذلك ، فالأول دعت إليه ضرورة الإحتياط للدين وحفظ السنة والثاني دعىت إليه العصبيات وتصفية الحسابات .
4- علوم الفقه
ولم تكن بعيدة عن السلوك الخاطئ كثير من المدارس الفقهية ، التي عدلت عن تقرير مسائل الأحكام ، والتحقيق فيها ، وفقاً لمسالك المحققين ، باعتماد الأقرب والأرجح دليلاً من المذاهب المعتبرة ، بل اختارت طرائق العصور المتأخرة وفترات الجمود والركود العلمي والحضاري ، واعتبرت المذاهب وأقاويل محرّريها قرينة للوحي في التعظيم ، والتبجيل فتعطلت العقول وتلاشت الإبداعات ، وضعف التأصيل لكثير من القضايا المعاصرة والنوازل التي تحتاج إلى اجتهاد وتنوير واستنباط وحلول لمشكلات العصر ، وبهذا الجمود ، والتحجر ، قدمت ذرائع لدعاة العلمنة ، بالطعن والتشكيك في الفقه الإسلامي ، ومرونته ، وصلاحية الشريعة واستيعابها لمستجدات العصر ، ونوازله ، ويتصل بالجمود المذهبي مع الغلو في السلوك الصوفي تقديس أقاويل المتبوعين ، وتقديمها على نصوص الوحي الصريحة وصولاً إلى الإنحراف العقدي بتقديس قبور الموتى ، والطواف حولها ، وسؤالها قضاء الحاجات وكشف الكربات ، ويزداد الأمر قتامة وخطورة بالوقوع والإستدراج في شباك التسييس والتخادم من بوابة إحياء الطقوس والمشاهد والمزارات فيتحول الجمود والتعصب المذهبي ، إلى مصيدة وخطّاف نحو دهاليز الجهل والخرافات بصورة لم تعد تخفى على ذي بصيرة أن ورءاها برامج ممولة لتشويه الدين وصد الناس عن قبوله والترويج للخزعبلات والترهات ونسبتها إلى دين الإسلام وهو منها براء .
5 – الوعظ :-
– أساس الوعظ ربط العباد بخالقهم ، وتذكيرهم بالله، والدار الآخرة ، وتصحيح عباداتهم ، ومعاملاتهم ، وتقويم سلوكياتهم ، وتوجيههم إلى قضايا المسلمين ،للمساهمة في التخفيف من جراحاتهم ، وتعميق المحبة والولاء بين المسلمين ، ونحو ذلك من المعاني الروحانية ، وهذا هو الأولوي الذي ينبغي في الخطاب الوعظي .
وفي أحيانٍ كثيرة يحصل الإخلال بمهمة المنبر ، ويرتقى فوقه من يسيئ إلى رسالته ، ليجعل منه منصة للتشهير والمشاحنات ، والترويج للعصبيات والتحزبات المذمومة ، أو الإغراق في التفاصيل السياسية التي لا تهم أكثر الناس بقدر ما يهمهم مايعنيهم من صلاح الحال والمآل .
والوعظ والتذكير حاجة ملحة للجميع ، بمختلف الثقافات، والمستويات ، لا كما يفهم بعضهم من الوعظ وترقيق القلوب تخصيصه بالبسطاء وعامة الناس بخلاف النخب العميقة ، التي يناسبها الخطاب العقلاني بعيداً العواطف والمشاعر الروحية ، وفي التنزيل خطاب عام ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) .
رئيس الهيئة العليا لإتحاد الرشاداليمني